(هذه المقالة لا تهدف للتشهير بأداء شخص أو مؤسسة أو مسئول ،وإنما تهدف للتنبيه على كارثية الوضع الصحي والذي ينبغي ان لا ينسحب على سلوكية وأداء الكوادر الطبية مهنيا وعلاجيا بدوافع نفعية او لظروف شاذة ، فهم صفوة المجتمع التي يجب ان لا تنحرف ولا تنتفع على حساب شرف المهنة وإنسانيتها .)
أولا : أنا واحد من أطباء العراق لا أزعم أني عالما او متميزاً ، علمني المهنة ودرّ!َسني ودربني في مهنتي واختصاصي أساتذة وأطباء عراقيون في الطبابة المدنية والعسكرية، لا أزعم أنهم كانوا بمنزلة واحدة من الزهد والعلم والمهارة ، لكنهم بشكل عام كانوا أوفياء وأجلاء لمهنتهم وبلدهم علما إننا جميعا كأطباء قدامى وجدد مدينين للعراق العظيم الذي وفرَّ لنا كل وسائل التعليم والدراسة والخبرة والمهارة ومعايير السلوك المهني السليم بلا تكلفة مادية وبلا تمييز او انتقاء . لم تكن قضية القبول بكليات الطب وفرص التدريب والعمل في مهنة الطب بمستشفيات الدولة تخضع لعامل مادي أو طائفي أو عرقي أو لأية معايير خاصة ولهذا كان طلبة وأساتذة كلية الطب بمكوناتهم وانحدارهم الاجتماعي يشكلون مرآة عاكسة لطبيعة المجتمع العراقي .
كلية طب بغداد عندما كانت وحيدة لعقود من الزمن وكليات الطب التي استحدثت بعدها نهضت بجهد أساتذة وطلبة من كل الأطياف والمذاهب والعرقيات والأديان والمحافظات أريافا ومدنا ، كل فرد منهم دخلها بمؤهلاته وبدراجته ومعدل تخرجه من الدراسة الثانوية وبرغبته وحث عائلته وتشجيعهم له، وكذا كان النجاح والسقوط والتوزيع والتدريب وإرسال البعثات يعتمد على الكفاءة والأداء باستثناء ممن كان لعائلته مستوىً معاشيا جيدا منحه فرصة التخصص والدراسة خارج العراق على نفقته ربما قبل غيره او ربما ليس بالمؤهلات المطلوبة للإيفاد على نفقة الدولة .
كانت كليات الطب العراقية محط أنظار كل دول وطلبة المنطقة العربية والدول المجاورة للحصول على القبول والدراسة فيها بسبب مستوياتها العلمية الرفيعة وبمهارة خريجيها ومستواهم العلمي والمهني في المنطقة ، لا يستغرب ذلك فالعراق أساسا يشكل منذ بدايات تأريخه مدرسة طبية عريقة وعميقة الجذور على مدى عصور بناء الحضارة والعلم والقراءة والكتابة معروف بمشاهير أطبائه ودورهم في التاريخ . لقد كانت مجموعتنا التي تخرجت عام 1969 تظم زملاء من الأردن والسودان وإيران وأرتيرا وفلسطين والكويت والسعودية .
ثانيا : عرف أطباء العراق بالتفوق في حصولهم على الاختصاص في أوربا وأميركا وكانوا موضع تقييم وتمييز في عملهم وبحثهم ومتابعتهم في مستشفيات أجنبية وجامعات عريقة وعلى مدى العقود من الزمن كانت هذه الدول تستقطب العديد من أطباء العراق وتغريهم بالبقاء والعمل الدائم فيها ، وحصل من بقى منهم على إشغال مراكز متميزة وشهرة وانجازات كبيرة ، لدينا أكثر من خمسة ألاف طبيب عراقي يعمل في انكلترا وايرلندا وبعد الاحتلال تزايدت أعداد من يعملون في كل أقطار العالم أضعافا بسبب التهجير . أعداد الذين فشلوا في الحصول على الاختصاص في الخارج من الأطباء العراقيين بالرغم من أعدادهم الكبيرة لا تتجاوز نسبة 5 % وعدم حصولهم على الاختصاص يعود لأسباب صحية أو اجتماعية أكثر مما هي علمية ومهنية . وأعداد من لديهم مؤشر بسلوك مهني خاطئ أو تعرض لمسائلة قانونية مهنية من بين أطبائنا المغتربين ( وهي عادة صارمة ) تكاد تكون نادرة مقارنة بغيرهم ، كما أن أعداد المتميزين والبارزين والناشرين للبحوث في الخارج من بينهم عالية . كل هذه المؤشرات تشكل ملامح واضحة لمستوى الطب العراقي الرفيع والرصين .
ثالثاً : ثقة المريض العراقي بالطبيب العراقي باستمرار كانت عالية والعلاقة متينة ورفيعة بشكل كبير وهذا لا يعني عدم وجود استثناءات وسلوكيات مستهجنة وشكوى هنا وهناك ، وعند هذا الطبيب أو ذاك ولكنها حالات شاذة مقارنة بما يحدث في كل أنحاء العالم فيما يتعلق على قضية السلوك الطبي والأخطاء الطبية والممارسة المهنية في دول متقدمة والذي أصبح مكثفا بحيث وصلت الى حد تواجد جمعيات وهيئات محامين تقضي معظم عملها في المستشفيات للتحري عن هذه المخالفات والتوكل فيها قضائيا . في العراق تاريخيا كان حدوث مثل هذه المحاكمات والعقوبات نادرا ومن وصم بعدم احترام قواعد السلوك المهني وأخلاقيات الطب من ضمن ألوف الأطباء قليل وصموا ونالوا بسبب سوء سلوكهم عقوبتهم الاجتماعية والمعنوية وهي الأشد مرارة عادة من عقوبات القوانين . الدواء العراقي والصناعة الدوائية الطبية كمنتجات معامل أدوية سامراء ونينوى أيضا حظيت بثقة العراقيين ناهيك عن رصانة أصناف الدواء الطبي المستورد وقواعد استيراده وثقة الناس بما متوفر من دواء في الصيدليات والمذاخر من إنتاج الشركات العالمية الرصينة وعرفت هيئة انتقاءها بالرصانة في القرارات منذ عقود من الزمن ولغاية دخول قوات الاحتلال وغزوها للعراق . سمعة المستشفيات الحكومية والتعليمية جيدة وبشكل عام كانت هذه المستشفيات تقوم بمجمل إجراء عمليات القلب والدماغ والعمليات المعقدة الكبرى ، لأن المستشفيات الخاصة والقطاع الخاصة لم تكن ترق لمستوى التجهيز وتوفر المستلزمات الفائقة لمستوى المستشفيات الحكومية ولغاية اليوم بالرغم من وجود مستشفيات خاصة منذ الستينات في العراق خاضعة لمتطلبات وتفتيش وزارة الصحة ورقابتها ، لكنها جميعا لم تكن مؤهلة للعمليات الكبرى والمعقدة ولم يكن للقطاع الخاص نسبة كبيرة من الدوافع العلمية لاستقبال المرضى إلا لأسباب تتعلق بدوافع خاصة وشخصية تتعلق برغبة المريض وعائلته لتلقي رعاية خاصة وانتقاء للطبيب او الجراح المعالج و اعتبارات اجتماعية معينة وليس لاعتبارات أخرى ، التوسع في خدمات القطاع الخاص مؤخرا جاء نتيجة إشغال القطاع العام وتقلص إمكانيته السريرية والتمريضية والجاهزية الناتجة من الصراعات العسكرية والمعارك المتتالية والحصار المفروض على العراق بعد حروب الخليج في الثمانينات من القرن المنصرم. واستفحل الأمر ليتسع الإقبال على القطاع الطبي الخاص بشكل مغر وكبير بعد تدهور بنية الوضع الصحي في العراق بعد الاحتلال .
رابعا : لا يوجد طبيب عراقي متميز أو شهير مهما كان انحداره الاجتماعي والطبقي ومهما كان اختصاصه غير مدين للعراق والدولة ومرضاه في الحفاظ على مستوى عالٍ من التحصيل المهني والمادي والاعتبار الاجتماعية لمهنة الطب والعيش بأمن وأمان واحترام وتقدير بسبب ما يكتسبه من شهرة ومردود مادي من هذه المهنة الشريفة والنبيلة .
خامساً : وأنا أكتب وأسطر ملاحظاتي عن الوضع الصحي في العراق أقسم بالله العظيم بأني لا امتلك موقفا شخصيا عدائيا أو انتقاميا من أي طبيب أو ممرض و صيدلي من الأسرة الطبية سواء كان مسئول أو مهني ممن هم في داخل العراق حاليا بل على العكس من ذلك فهم جميعا أما أن يكونوا أصدقاء أو زملاء أو ممن تدرب وتعلم وعمل معي ، وحتى أولئك الأطباء المسيَّسون الذين جاءوا مع الاحتلال وفي مظلته ممن حسب معارضا للنظام السابق ليس لي موقفا شخصية لي معهم إلا من خلال تورطهم وخطئهم الجسيم بالقدوم مع الأجنبي وعتبي عليهم بعدم إسهامهم ايجابيا بمسئولية الطبيب الوطني العراقي النابه الذي كان يجب أن لا يمر عليه هذا المقلب ليعد بعدئذ ضمن من أسهم بهدم العراق وخرابه ولا زال مستمرا بهذا النهج . كما إني أحمل غاية الاحترام لكل أفراد الأسرة الطبية العراقية الذين مازالوا رغم الصعاب والمخاوف والأجواء الصعبة المخيبة يقدمون خدماتهم ورعايتهم للمواطن والمريض العراقي الذي هو بأمس الحاجة لهم ويتعرضون يوميا من خلال ممارستهم لشتى أنواع الابتزاز والاعتداءات بذرائع شتى حتى أصبح الفصل العشائري عرفا عليهم ، وأشهد أنهم عند الله و بالمعيار الوطني أفضل مني ومن كثير من الأطباء الذين هاجروا أو هجروا العراق في هذه الظروف الصعبة مهما كانت الدوافع وقسوة الواقع وان معاناتهم بالتأكيد هي أشد وأقسى من ظروفنا نحن الذين هاجرنا العراق مهزومين ومهددين أو مختطفين او متضررين !. كما إني لا استهدف شخصيا أحد من الأسرة الطبية أو مؤسسة طبية معينة بدافع شخصي عندما اكتب مقارنة بين الوضع الصحي بالأمس و واقعه الكارثي اليوم بعد الاحتلال ، وكل الذي أريد أن أشير إليه هو أن ما يحدث اليوم هو كشف للمخطط الرهيب الذي تعدد أطراف صانعيه الذي استهدف هذا القطاع بتقصد منبها من واقع الأحداث والممارسات إلى حقيقة أن المخطط قد نجح في خرق المنظومة القيَّمية والسلوكية للمهنة والسلوك المهني ومن خلال وقائع ومشاهد أجدني مضطرا لتنبيه كوادرنا الطبية الإدارية والعلاجية حولها لأنها تشكل ظاهرة خطيرة دوافعها الإهمال أو الانشغال أو الانتفاع أو المال أو القبول بالأمر الواقع وتحمل مسئوليات وإجراءات معقدة تستوجب خبرات ومهارات وإمكانيات غير متوفرة . لقد كثر الحديث والكلام اليوم في الصحافة والفضائيات عن سوء الخدمات وارتفاع أسعار وأجور المعالجات الطبية وتفاقم مضاعفات العمليات وإجراء تداخلات علاجية وجراحية بلا دوافع او من قبل أطباء غير مؤهلين لإجرائها ، وعن خلل في العقامة وحصول مضاعفات التهابية وخمجية وتقاضي رشاوي وأجور لعمليات تجرى في المستشفيات الحكومية وكثرة ممارسات خاطئة في العيادات الخاصة وغير ذلك ، وهذه المقالة هي محاولة ثانية وقد تكرر للتنبيه والتذكير أن انهيار أسس وبنية ولبنات الطب العراقي بسبب الاحتلال ومخططاته ودول تريد بالعراقيين الشر والوقيعة وبسبب حكومات الاحتلال المتعاقبة وإداراتها وقياداتها الفاشلة في الترميم والبناء ينبغي أن لا تمس ولا تؤثر على سلوكنا الطبي كأسرة طبية وهمنا المشترك بتجاوز المداهنة والانتفاع بل يجب التمييز اليوم والتمسك الشديد بسلوك مهني وأداء جيد ودوافع إنسانية التي تمثل شرف المهنة وإنسانيتها فيما تصبح الدوافع الشخصية والنفعية أداة هدم ونخر في إنسانية المهنة .
سادسا : وللتاريخ لا نفاقا ولا تزمتا لابد أن أشير ان الوضع الصحي ونظامه وجاهزيته وكفاءته اليوم في العراق قد تدنت بشكل كارثي ومريع أكثر مما كان عليه الأمر في ظل أقسى الظروف التي مرَّت بالعراق سواء كانت وبائية أو بسبب تأثير الحصار منذ عام 1990 وتأثير الحروب الشرسة التي خاضها العراق في ثمانينات القرن المنصرم ،وهذا الكلام أقوله لأنني كنت واحدا من المشاركين والمساهمين طبيا وعلميا ومهنيا بمتابعة الواقع الصحي في الجيش وفي وزارة الصحة قبل ومنذ أن نقلت إلى مركز صدام لجراحة القلب عام 1993 إجبارا وليس بخياري مع أني وغيري لم نكن راضين بما نحمل من طموح عن واقعنا الصحي قبل الاحتلال ومبررات ما أصيب به من نكسات وهذا الإحساس كانت تشاركنا فيه القيادات الإدارية والوزارية في وزارة الصحة ولا تنكره ومنهم من هو شاهد حي على ذلك .
سابعا : الواقع الصحي اليوم كارثي لأسباب عديدة ، لأن دولة الاحتلال ومن ساندها ودول مجاورة استهدفت مؤسسات وإمكانيات ومهارات وكفاءات هذا القطاع منذ أول يوم فكرت فيه بتنفيذ مشروع الغزو ولغاية اليوم ، الأطباء والصيادلة والملاكات الطبية الأخرى اختطفت واستهدفت وهدمت وحرقت وسلبت والكوادر قتلت وهجرت وتقاعدت وهمشت وعزلت بتقصد وفق مخطط مسبق لهذا الغرض مازال فاعلا ، الدواء الجيد قوطع وأدخلت أدوية غير رصينة وغير مقيمة بل وملوثة ومزورة ونافذة المفعول ومهربه وقاتلة ، ميزانية وزارة الصحة لا تبني ولا تعمر لقلة التخصيص ناهيك عن فساد مستشر ونهب واضح وسرقات فاضحة في العقود الترميمية والاستيرادية والتعاقدية ،الكوادر الإدارية الجديدة في الصحة إدارات تنقصها الخبرة والكفاءة والنزاهة وتم التخلص من كل كوادر وزارة الصحة الإدارية والمهنية المعروفة بكفاءتها ونزاهتها وما زال هناك إصرار على بقاء هذه الكوادر والتمسك بها من قبل السلطة ، مراكز الرعاية الصحية الأولية التي تشكل لبنة العمل أما فارغه و غير فاعلة وغير كفئوه مهنيا وأسس الوقاية الطبية أهملت ولا يتم التحدث إلا عن أرقام إحصائية مفبركة تهتم بعدد المراجعين والوصفات والعمليات وغيرها وهي حتى إن صحت لا تعني أنها إنجازات بقدر ما هي زحمة وكثافة احتياجات أرقام الموت والحياة عند الأطفال وحديثي الولادات والأمهات والحوامل وأرقام وفيات وإعاقة الأمراض المزمنة والانتقالية وغير الانتقالية هي التي تعكس الواقع ، معدل عمر الإنسان العراقي مقارنة بغيره في المنطقة وأرقام الوفيات والمضاعفات و وقوعات الأمراض مقارنة بشعوب دول تحيط العراق هي التي تتكلم ، التصريحات الفارغة والمؤتمرات الدعائية لم تغيير من واقع الحال شئ . الأمراض النفسية الإدمان والاعتماد النفسي على الأدوية و نسب السرطانات والأورام والتلوث الإشعاعي والبيئي وسلامة الغذاء والماء والأجواء من التلوث والغبار أصبحت تشكل مؤشرات خطيرة في غياب الكهرباء، وسياقات سليمة للتخلص من النفايات والازبال وغياب الصرف الصحي و وسائل حرق فضائل ونفايات المستشفيات والمعامل الصناعيه .
الدراسات والإحصائيات المنشورة تتوقع المزيد من الكوراث الصحية فالعراق على رأس قائمة دول التلوث وبغداد أقذر عاصمة وهجرة الأطباء من أسوء نتائج الإقصاء والتهميش والتمييز ، والعراقيون كما نشر لم تعد لهم ثقة بمؤسسات ومستشفيات الدولة ’ ومستشفيات القطاع الخاص ومؤسساته مشاريع نفعية تجارية لا تفي باحتياجات الناس والمرضى الأساسية ، وحتى في إقليم كردستان الذي يحسب له استقراره وافتتاح مؤسسات ومستشفيات ومراكز صحية عراقية وأجنبية به كما تزور الإقليم فرق طبية لإجراء التداخلات الجراحية بكلف باهظة ويستقطب الإقليم أعدادا كبيرة من أطباء الوسط والجنوب العراقي النازحين، لكن الاهتمام بالوقاية والرعاية الصحية الأولية والأمومة والطفولة وطب العائلة والمجتمع لم تتطور وحكومة الإقليم نفسها تعترف بالحاجة لمشروع متكامل يحقق نقلة نوعية في مجال الخدمات الطبية للمجتمع في تقرير صدر حديثا ويشير ان ذلك يحتاج لعقدين من الزمن كي تجنى ثماره ، توسع القطاع الصحي على حساب القطاع الصحي العام ظاهرة خطيرة والصحيح ان يتم بناء قطاع طبي عام جيد كي ينهض بمواصفات وامتيازات القطاع الطبي الخاص الفاعل ، الصناعة الطبية تدهورت ومهاراتها وكفاءاتها اختفت ، التعليم الطبي والمهني تخلف وغابت الأكاديمية والعلمية فيه ، التمريض في العراق اليوم فاجعة ، التعاقد مع دول العالم الثالث لجلب الكوادر الطبية أمر يعقد المشكلة ولا يحلها ويثير تنافسا وإشكالات كثيرة ومكلفة . منظومة الطب الوقائي والتفتيش الصحي والرقابة الصحية ومنظومة الصحة والرعاية الأولية لم تنجز شيئا يذكر مع غياب النية للتقويم والتصحيح والتطوير . والإدارة الصحية تصر أنها تسلك الطرق السليمة فيما يشاهد العراقيون ويسمع صيحات أعضاء مجلس النواب ولجنة نزاهته واللجنة الصحية فيه تكشف المزيد من الفساد المستشري في الوزارة ماليا وإداريا ومهنيا ، ماذا يعني ذلك ؟ .
ثامنا : ولكوني طبيب استشاري ومتخصص لقرابة نصف قرن في العراق ومارست خلالها الإدارة والمسئولية واستقريت في الأردن بعد تهجيري وتهديدي بعد الاحتلال فأني أشعر بأن أقل ما يمكن فعله هو المتابعة والاهتمام بشؤون العراق وبالذات بالقطاع الطبي والصحي فيه والكتابة عنه بعد أن حرمت من مزاولة مهنتي فيه وهذا شعور ينتاب كل الزملاء والأخوة الذين هجروا واضطروا للهجرة فأرجوا أن لا يقال عما اكتبه بأنه نوع من الإسفاف والنقد الجارح ، وبسبب ما ذكرته مسبقا عن ثقة المريض العراقي بطبيبه فقد ترتب على ذلك أن نكون كمجموعة أطباء عراقيين معروفين في مستشفى الإسراء في عمان أكثر إطلاعا على حالات تصلنا بشكل متكرر تنم عن وقائع طبية وسلوكيات مهنية لم تكن يوما سمة متكررة من سمات الطب العراقي الذي عهدناه ، كانت منها قضية علاج الأطفال العراقيين المصابين بأمراض القلب الخلقية في مستشفيات اسرائلية واتضح علاقة هذا المشروع بالمنطقة الخضراء ومنظمات إنسانية روجت للمشروع بمساندة قوات الاحتلال وعلم وزارة الصحة والسلطة به . تلك كانت واحدة من كوارث اختراق قطاعنا الإداري والطبي الصحي تمت ولي قناعة باستمرار وصول مثل هذه الحالات لغاية اليوم لأن المخطط شاركت به أطراف عديدة ولأن الدولة الصهيونية اعترفت وافتخرت بانجازها هذا في حينه وعزمها على تطويره .
بتواجد عدد من الأطباء العراقيين في عمان وبمستشفى الإسراء بالذات أو في مستشفيات أخرى أصبحت ظاهرة الاتصال والاستنجاد بهم حول مرضى وحالات مستعصية في العراق تشكل حالة دائمة ،( تصوروا أنني خلال كتابة هذه المقالة استلمت اتصالين لإعانة مريضين وصلا الأردن بسبب مضاعفات جراحية) ، من خلال وصول المرضى الى عمان والاطلاع على ما لديهم من فحوص وعلاجات وإجراءات ومضاعفات نلمس مع شديد الأسف مؤشرات خطيرة في مستوى التشخيص والمعالجة لم تكن معهودة السلوك في إرثنا الطبي وعلى سبيل المثال أدرج حالتين وصلتنا هذا الأسبوع تعطي هذا الانطباع لا نكاية بطبيب أو تجريحا بل تنبيها وتفاديا لما يجب تجنبه:
المريضة الأولى :هي والدة لزميل اختصاص يعمل معنا أصيبت بكسر في مفصل الورك بسبب سقوطها وكانت في حينها الحدود مغلقة بسبب الأوضاع الأخيرة وبسبب قلق الزميل اتصلت أنا وهو تكرارا ومرارا بمن نعهد فيهم الخبرة والمعرفة من أطباءنا في بغداد وطمئنوا عائلتها بأنهم سيقومون بالواجب وهذا ما عهدته وبعد أن تم تحضيرها لتكون مؤهلة للعملية من المؤكد أنهم كلفوا من هو أهل لإجراء العملية الروتينية لتبديل المفصل وفعلا تم ذلك وأخرجت المريضة والدة الطبيب إلى بيتها بنجاح كما اخبرنا ، ما لم يكن بالحسبان أن تصل المريضة بعد خروجها بآخر نفس وبحالة سيئة ومزرية الى عمان بعد ان تم فتح الحدود وهي تعاني من تقرح واسع في ظهرها بما يسمى قرحة الفراش مع خراج قيحي كبير وخلع المفصل الذي ركب لها من موضعه الى أعلى الجسم ، يا للكارثة قرح فراش كبيره ملتهبه وتجمع قيحي متفجر الى أعلى الفخذ لمريضة لا تعاني من شلل أو مضاعفات عصبية مركزية خلال ثلاثة أيام لمريضة رقدت في جناح خاص بأحسن مؤسساتنا الصحية الحكومية المعروفة في بغداد وصلت بهذه وهي منذ ما يقارب من شهر بعد وصولها لازالت في حالة خطرة ! مع كل توصياتنا لزملاء اختصاص وفريق طبي كامل برعاتها ومتابعتها ، هل هذا معقول ؟ أين الخلل في المستلزمات ؟ في العقامة ؟ في التمريض ؟ في صالة العمليات ؟ في المستلزمات ؟ في التخدير ؟ في الكادر الجراحي ؟ في الكادر الطبي ؟ . وصلت ومعامل التخثر عندها عالية بشكل مخيف ولم يمض على وضعها على حبوب التميع ومنع التخثر أكثر من ثلاثة ايام ؟ كيف أخرجت ولماذا لم تتابع مختبريا وشعاعيا ؟ اسئلة تتبادر للذهن أهمها اذا كانت المريضة معروفة والتوصيات بالهواتف بين الزملاء المعنيين وهم ماهرون مستمرة وكادت النتيجة أن تؤدي لموت محقق لو لم يحفها الله وعطفه وينقلها الزميل الطبيب ابنها الى عمان برعايته ، ترى ما حال أي مريض آخر لو عولج في محافظة من محافظات القطر الأقل شهرة وتجهيزا من مستشفى حكومي خاص في بغداد ؟ .
المريضة الثانية: وهي سيدة شابة تسكن في قضاء حدودي كانت قد أجرت عملية قيصرية لأول مرة لمولودها الرابع بمبرر إصابتها بعلامات تسمم الحمل( ارتفاع الضغط و ودمة الساقين وتبول زلالي ) وقد أعتيد أن تجرى هذه العملية القيصرية لمثل حالتها إن صح ما قال جراح النساء في مركز المحافظة التي تسكن فيه ، تم إجراء العملية القيصرية لها ليلة الجمعة في مستشفى أهلي لا أريد ذكر عنوانه أسس في احد نواحي المحافظة حديثا بعد أن نقلت وتم إجراء العملية بنجاح وبطفل سليم وأخرجت المريضة بعد يومين وتم فحصها من قبل اختصاصي باطني قام بدوره بوضعها على حبوب منع التخثر بمعدل 10ملغم يوميا وأرسلها إلى مدينتها النائية بعد ان أوصاها بالمراجعة إذا حدث نزف في الجلد وفعلا استمرت المريضة على الاستمرار لأكثر من عشرين يوما على هذه الجرعة القاتلة لأنها كانت محظوظة بعدم حدوث نزفت لكن المريضة ساءت حالتها بحمى وانتفاخ وانسداد في الأمعاء وفي كل مرة عادوا بها الى الجراح المختص الذي اجرى العملية كانت تعاد بطمئنتها بعدم وجود مضاعفات ، توسط أبوها وعائلتها للحصول على سمة دخول مستعجلة إلى عمان ونقلت صباح الخميس (قبل 3 أيام ) وجاءوا بها الي في حالة مزرية انسداد أمعاء كامل وانتفاخ شديد في جوف البطني وحمى عالية و ودمة الجسم بعد وصولها بساعة فقط كان التشخيص قد ثبت بالسونار بوجود كتلة كبيرة بحجم 30 سم طولا وعرضا تشكل كيس قيحي أو نزفي في الجوف البطني ضاغط على الأمعاء فيما يبدو الرحم والجهاز التناسلي سليما ، كما أظهرت الفحوص المختبرية حالة سيولة وعدم تخثر في الدم عالية جدا بسبب الاستمرار على علاج التخثر بكمية عالية ولفترة طويلة وبدون متابعة مختبرية( ملزمة لمن يصف لمريضه هذا العقار ) الذي كان ممكن تلافيه بعقار آخر يؤدي نفس الغرض ويعطى بلا حاجة لمتابعة لفترة قد تقصر أو تطول ، وخلال ساعتين تم تصحيح معامل التخثر بالبلازما الحديثة وإعطاء دم حديث وأدخلت صالة العمليات ، فتح الخراج القيحي الدموي وإذا بقطعة ضماد (شاش) كبيرة تزن أكثر من نصف كيلو وهي مبتلة تركت في جوف المريضة يحيط بها هذا التجمع القيحي ، حقيقة لا يوجد جراح في العالم يتمنى ان يقع في هذا المطب ، وهذه الحادثة قد تحدث وحدثت حتى في أحسن المستشفيات بالعراق وحتى في الخارج ، ولكن لماذا هذا الإصرار على كون المريضة سليمة بالرغم من حالتها المتقدمة ولماذا لم يتم إجراء فحص سونار بسيط لها ولماذا وضعت على علاج مانع تخثر بلا تعليمات او متابعة ولفترة طالت لأكثر من عشرين يوما دون فحص مختبري كي تصل لهذه الحالة، وماذا لو كانت المريضة قد أصيبت بنزف مركزي في عمليتها أو دماغها او حالت نزف شديد في جسمها قاتلة وقسما بذات الله لو أن هذه المريضة والتي لا تزال تعالج من تسممها الجرثومي لغاية اليوم في مستشفانا لكانت قد فارقت الحياة في أي لحظة تأخرت فيها عن القدوم في مساء الجمعة التي أجريت فيها عملية الاستكشاف بعد وصولها بأقل من 4 ساعات هيئت فيها لإجراء العملية ، وهي شابة وأم لأربعة أطفال !.
أنا أعرف تفاصيل الحادثتين ومكان حدوثها وطواقم الكوادر التي أجرت التداخل الجراحي لهاتين الحالتين ونتائج ومضاعفات العمليتين موثقة بالصور وقد اتصلت بأحدهم وأخبرته بأن ذوي المريضتين لن يتقدموا بشكوى وأن مجرد نجاتهما يكفي للصفح والعذر وعدم إثارة شكوى أو مشكلة وان اتصالي ليس لتهديد ولا وعيد ولكنه إعلام بأخطاء (صحيح ليست متعمدة ولكنها) لا تليق بحق المؤسستين التي تم العلاج فيهما ولا بالكوادر التي أجرت التداخلات الجراحية ، إذ ينبغي مسائلة ممرضة العمليات ولفت انتباه الجراح الذي أغلق جوف البطن وبداخله كتلة ضماد من (الشاش) بهذا الحجم الكبير مع ان الرحم وخياطته والتوليد تم بشكل معتاد بلا مضاعفات موضعية ، فإذا كان حال طبنا في العراق هكذا بلا متابعة ومسائلة ومتابعة ، فليس علينا إلا أن نقرأ على الطب السلام . لقد حرصت على عدم ذكر المستشفيات والأطباء بمسمياتهم ومواقعهم ولن افعل وتعهد لي ذوي المريضتين بأن لا يتم تقديم شكوى او مقاضاة او تعويض أو فصل عما حدث من تقصير ، فالغاية من سرد القضيتين وذكرها ليس شخصي او انتقامي ولكن التذكير مهم والتنبيه أهم ومع أني أعرف ظروف ومصاعب أطبائنا في الداخل أعانهم الله وحفظهم ورعاهم فإني أشعر بأن مخطط المحتلين بإبادتنا وخراب بلدنا وتشظيته واختراق منظوماتنا القيمية والإنسانية والمجتعمية قد نجح حين بلغ الخرق سلوكنا ومسئولياتنا كأطباء وممرضين . كلي أمل وأتمنى على الاسرة الطبية العراقية المجاهدة العاملة في العراق وفي ظروفه الصعبة من خلال ما تقدم في هذه المقال أن لا تنجرف ولا تنحرف ولا تكون فريسة الجشع والإهمال بسبب الجهد المضني والحرص على جمع المال والاغتناء الفاحش والسريع بسلوكيات مرفوضة وسياقات غير صحيحة .
مقالات اخرى للكاتب