انتشر مؤخرا مقطع فيديو (*) يثير اليأس والسخرية: شيوخ وصبية سلفيون بملابس ملائكية بيض، ولحى كثة سود كقلوبهم، وهم في جو احتفالي هستيري مغرق بالسفاهة، يُحطمون فيه آلات "عود " شيطانية كافرة.! الغريب انه تزامن مع إعلان أحد مستشفيات السعودية عن ادخالها موسيقى عود "نصر شمة " كعلاج روحي ونفسي لمرضاها !( مريض منهم وبعد صمت دام اشهر، نطق وتكلم عند سماعه عزف نصير على العود) - من مقابلة لنصير عبر الشرقية الفضائية-
ومع تكبيرات وصلوات نصر السلفية الخائب، على عالم سحرنا الروحي، ما علينا سوى قراءة الفاتحة على روح أوطاننا، والرثاء على ما تبقى من حياتنا وعلى دنيانا السلام..!
ليست هذه أول الضلالات ولا آخر سفاهات الإسلام السياسي. فسفاهة هذا العهر لا تختلف عن فتاوي هوسهم الجنسي في نكاح الجهاد ونكاح الوداع وإرضاع الكبير بشيء !!؟ :
" ما كان أيّ ضلال جالبا أبداً .... هذا الشقاء الذي باسم الهدى جُلبا " -الجواهري-
" صاح الغراب وصاح الشيخ فالتبست... مسالك الأمر أيّ منهما نعبا " -المعري-
حين نعود من نعيب غربان القرن 21 الى أندلس القرن الثالث عشر، ستدهشنا مفارقة بائسة ، فهناك حيث مجد غرناطة العظيم، مجدنا العربي والاسلامي الأصيل، وما كنا قد سبقنا فيه أوربا والعالم بكل مجالات العلوم، سنجد أن إسلام الخلافة العباسية هو من نشر استخدام عودنا ﻓﻲ أوروﺑﺎ ﻛﻠﮭﺎ ﻋﻦ ﻃﺮﯾﻖ ﻣﻌﮭﺪ زرﯾﺎب ﻓﻲ ﻗﺮﻃﺒﺔ- اﻷﻧﺪﻟﺲ، تلك اللؤلؤة التي ﻛﺎنت منارا لنشر مختلف العلوم واللغات والترجمة والفنون و الموسيقى . وهل ننسى مثيلاتها وما قبلها باربعة قرون: البصرة والكوفة وبغداد، مراكزَ التنوير والإشعاع الفكري والمعرفي للعالم أجمع!
إذن، ماذا يحدث في شرقنا الآن. ؟ ما هذا الارتداد الحضاري والمعرفي غير المسبوق وغير المفهوم.؟
عند بحثنا في مسوغات سفاهة تحطيم العود، وخلافا لسفالاتهم في الذبح والقتل، سنجد إنها بلا أوليات ودون مسوغ تاريخي أو ديني أصلا، كما هي ظاهرة لا تمثل بأي صورة ما، العودة لتقليد "سلفنا الصالح". واذا أضفنا لها سلسلة فتاوي الهوس الجنسي، سيكون حاضر ربيعنا الإسلامي الحالي كابوساً، ويمثل بحق أسوأ حقبة انحطاط فكري وثقافي ومعرفي شهدها تاريخنا السياسي والاجتماعي.!
إننا أمام "ظاهرة صوتية" اخرى غير العروبة.! ظاهرة انبثاق فقه شفاهي بلا أوليات وأصول، فقه يبشرنا بولادة دين بائس جديد. دين سياسي سافل يؤسس لثقافة الكراهية والموت وحب الآخرة ليس إلا. دين لا علاقة له بالإيمان بالله ورسوله، ولا يمت بصلة بالحياة والإنسان أصلا.!
أما عن مَنْ يمول هذا العته والعهر المقصود في ربيعنا الإسلامي، فهو في زمن العولمة، متروك معرفته فقط، للجهلة ومهابيل العصر !
رحلة قصيرة مع تاريخ العود:
--------------------
طبعاً لا يوجد نص مقدس بحرمة الموسيقى والغناء في الإسلام، أما في الحديث والسنة النبوية، فهناك إجماع على سند البخاري، كون تحريم "المعازف" مشروط بتزامن العزف مع الخمر والميسرة:( ليكونون من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف)
أما عن بقية الأحاديث، فكلها بسند ضعيف .
لذا فحرمة الموسيقى بدعة سياسية مبتكرة، وهي ليست غريبة على الإسلام. ابتدعها ذات مرة والي الكوفة –خالد بن عبد الله القسري – فاصدر أمرا بتحريم الغناء والموسيقى. بعده خلفه الوالي –بشر بن مروان- وهو اخو الخليفة عبد الملك- فألغى هذا الأمر كونه محباً للموسيقى. حينها استدعى "حنين الحيري"-من عرب بني حارث- وكان من أشهر المغنين وعازفي العود في عصره. (لعل كره بعض مراجع الشيعة للموسيقى جاء من كرههم لهذا الوالي المرواني الكافر !)
السؤال:هل قرأ شيوخنا التاريخ حقاً.؟ أظنهم نعم ، لكنهم كالعادة، أما حرفوه أو لم يفهموه !
فشيوخ الضلالة ومن كل المذاهب يسيطرون على مفاتيح حرياتنا ومفاصل حياتنا، فنجدهم الآن يهيمنون حتى على عراقنا الديمقراطي .! يقينا هو نهج سياسي لإشاعة الأمية والجهل وبالآخر، إجهازهم على ما تبقى من" الحياة الدنيا" من اجل كسب حياة آخرة توعدهم بالخمر والعسل والغلمان وحور العين! فاكثر شيوخنا متفقين في التحريم، متسلحين بحجة فقهية واهية: كل ما يبعد الانسان عن الدين وذكر الله، محرم شرعاً ! مالهم إذن مع الآيفون والآيباد و و وتعدد الزوجات! أليسوا منغمسين في ملذات الدنيا أكثر منا ؟! انهم يحتكرون الدنيا والآخرة معا. لمَ لا يتركوا لنا الموسيقى على الأقل!
أنا على يقين ان مخاوف علماء الإسلام الدنيوية من الموسيقى في محلها، فهم "علماء" في فهم و تقييم هذا التجلي الوجداني الساحر، والتوحد الآسر مع أيقونة الكفر العود! فمن تجربتي البسيطة مع العود، اعترف وربي شاهد، ان هذا المسكون بالجن ، ابعدني ولسنين شيطانية لا حصر لها عن الصلاة والعبادة وذكر الله! عليه اللعنة !
كان شفيعي في قطيعتي الإيمانية هذه ، مشيئة ربانية رحمني وكرمني الله بها ، فقد خصني بمرض مليوني في شبكية العين، أجبرني على ترك القراءة و التعلق بهذا الشرير الفاسق الذي استحق ! كسر عنقه الطويل. حينها، تعلمت العزف عليه بعد فوات الأوان، بعد تجاوزي الثامنة والأربعين. ومع الأسف ، بعد تخشب أناملي..نعم قدري ولا سواه، أجبرني على المفاضلة في اختيار ملهم وجديَ الروحي هذا، فأدمنت على الهيام معه، عوضا عن قراءة الأدعية لوطن النكد و الخراب والاغتراب وانحباسنا الروحي.
بعد فترة اكتشفت ان العود وأشباهه من الوتريات، موجود قبل الميلاد بالف عام، وانه مذكورٌ، لا بل ممدوح في العهد القديم - التوراة.!
ولعلي بذلك، اكتشفت سببا آخر لشدة كراهية السلفية للعود . فالعود مُجِّد بالتوراة. أيعقل ان النبي داوود كان يعزف عليه مزاميره في تمجيد أله الإسلام نفسه !.
بالرجوع الى العهد القديم سنعثر وفي سفر التكوين على اسم "يوبال" كمخترع للعود (غير متفق على نوع العود ). كذلك ورد ذكر العود في سفر التكوين أيضا في الإصحاح 31. وفي سفر الأيام الأولى الإصحاح 16. أما في المزمور 81 فذكر : ( ارفعوا نغمةً، وهاتوا دفاً وعوداً حلوا مع رباب ) .
بهذا الغزل التوراتي، ربما استحقت علينا وعلى العود لعنات السلف الصالح! لقد دخلنا في التباس ديني آخر . هل الدف الذي استقبل فيه نبينا الكريم عند هجرته الى المدينة توراتي المنشأ ! وربما بالتباس آخر منهم، قتلت المغنية الكويتية "رباب"، فشياطين اللبس والتحريف والتحريم لا تفوتهم متعة قتل مغنية بمسوغ شرعي. ألم يرد اسم " رباب" في التوراة.!؟ يا لسذاجة أهل الكتاب وأهل الذمة..! ماذا ينتظرون!؟.. دفع الجزية!
لكن حين نترك السخرية ونغور بالتاريخ مليا، سنكتشف سببا أخر لتحطيم "سطوة" العود كأحد أقدم ألآت الموسيقى الوترية المتعددة النغمات "سحرا!" في الشرق. فأهم الدراسات تؤكد ان العود فارسي الأصل ، يدعم ذلك أسماء أوتاره ومقاماته المتداولة لحد الآن (رست، دوكَا ، سيكَا .... بنجكَا.. )!! هنا حلت النكبة ! لقد دخلنا السياسة من أوسع أبوابها: بوابة الشام وطهران ، وعلى ما أظن، هنا يكمن السبب الحقيقي لذاك الحفل التأبيني السلفي السفيه بتحطيم الأعواد. يقينا هم معنيون وبأوامر عليا، بموقف سياسي مبدئي، فبيت القصيد والأصل في الحرمة والحلـّة: محاربة الشيعة والمد الصفوي من الجذر: "من العود الفارسي الأصل "! بؤس فقه التطرف وثقافة الكراهية !
إزاء هيمنة هذا الخواء المعرفي والفكري الهمجي على مشهدنا السياسي العربي والإسلامي، سيستمر إسلامنا السياسي وأحزابه وبلا فكاك، فرز سمومه وتكرار ذات سفاهات نهجه التخريفي ، لنشر الجهل و ثقافة بقاءه ووجوده : ثقافة الكراهية والطائفية.
وحين نقف مسمّرين أمام هول هذه التحديات الجسام ، سيلفنا الذعر واليأس ونحن نراقب بأسى، اتساع الفجوة الحضارية التي تفصلنا عن عصرنا العولمي المتسارع الزاهر ، عصر طـُويت فيه كل المفاهيم والأفكار والأيدلوجيات البالية، عصر لم يبق لنا فيه من مهام "إلا أفق التوضيحات الفكرية والسياسية" حد تعبير المفكر العفيف الأخضر.
مقالات اخرى للكاتب