كنتُ جدولَ نهرٍ، أصبُّ في منبعٍ نقي
كنتُ كعشبٍ في جنائن بابل
بحثتُ عن الخلودِ مع كلكامش
وشعرتُ للحظة أنّني تلكَ الوردةُ الباعثةُ للحياة
كانت إنسانيّتي تُسيطر على مشاعري وانفعالاتي
وتُرجعني إلى أيّامِ الخلقِ الأولى
كأنّني الأوَّل على هذهِ الأرضِ الخربةِ الخاويةِ
تَصفحتُ أوراقَ الصفصافِ و البردي
فتجلت صور حضارتي العريقة
وبدوتُ فيها
كريشةٍ كَتَبَ بها حمورابي مسلتَه الشهيرة
وكأوتارِ القيثارةِ السومرية
وكأحدِ عساكرِ الجيوشِ الأشورية
حملتُ معي لواءَ الرشيد
وبيدي بنيتُ أسوار السلام
من فسيلاتِ النخيلِ صنعتُ أقلامي
وبماءِ الذهبِ دونتُ قصائدي
****
أنا هو ذلك المنسي من وجهِ التاريخ
أنا هو بن الحدباء والزوراء والفيحاء
أنا هو بن أربيل والنجف
ابن الرمادي وابن بلادي
أنا العراقيُّ المقهورُ
أُطفئ من حولي النورُ
تركني الفرح والسرورُ
****
أنا العراقيُّ المدحورُ
بل أنا العراقيُّ المخمورُ
مخمورٌ بالفَزَعِ و الخَوف
مَنْفيٌّ إلى جُزرِ الموت
تَعَذَّبتُ والآلامَ تَحَمَّلتُ
عانَيتُ ما لَمْ يعانِه أحدٌ
والمظالِمَ بقسوةٍ تلقيتُ
****
هَجّروني من وَطَني قسراً، وبَيْنَ الأُمَم نَثَروني
أبحَثُ عن قلبٍ يؤويني، أو عن خَمرٍ يُسكِرُني
وعن قطعةِ رغيفٍ تَسدُّ رَمقي وتُشبعني
وعن صَليبٍ يحميني أو عن مياهِ الأردن
لتَهبط الحمامَةُ على كتفي والحبيبُ يُناديني
أو عن طريقِ أريحا
حيثُ المسالِكُ الجريحة والإيمانُ فضيحة
واسمك حينما يُسبَّحُ بِهِ يُصبِحُ صورةً قبيحة
****
أمسيتُ على وجهي هائماً ولخالقي لائماً
فوقَ المذبَحِ ذَبَحوني، وفي حُفرَةِ اسطفانوس رَجَموني
كرأسِ يوحنا قطّعوني، وعلى خَشَبَتِكَ عَلَّقوني
سُرَّ هيرودس بحُزني، وفَرِحَت هيروديا بغُبني
الضيقاتُ أحاطتني والقيودُ طوقتني
والأفراحُ هجرتني
وفي عُزلتي غبتَ عنّي
جَحافلُ الأرضِ هجمت على بيتي
وجُليات الجبار استلَّ سيفَهُ من غمدِهِ
وعلى رَقَبَتي وَضَعَهُ
ولم يَقدر داؤود أن يُدافع عنّي
فوقعتُ في جُبِّ الأسود حَيثُ العَدوّ اللدود
حيثُ تؤكل أشلاءُ لحمنا
وتُلذِّذ ثَغرَ الفهود
ابتعدتُ عنك وابتعدتَ أنتَ عنّي
وفي أوجاعي أبي تَبَرَّأَ منّي
وأُمّي قَطَعَتْ شَراييني
وذاتي أخَذَتْ تُقَلِّبُني بين كَفَّيها
ونَفسي إلى خارج الزمان تَرميني
****
أنا العراقيُّ المسجونُ في سجونِ العتمة
مع سُجناء سُجنوا لأَنَّهُم مواطنون
لأنهم تَحَدَّوا الطائفيينْ
وبَعَّدوا عنهم صوتَ الرّجعيينْ
فيا ليَتَكَ يا رَهينَ المحبَسَينْ
أن تُطفئ نارَهَم بشطرينْ
من شعرك وتُخمِد الأنينْ
فصدُورُهُم حُرِقت بعودِ كبريت
وشَعر رؤوسِهِم نُتِفَ بقنينة زيت
سُجنوا لأنّهم قالوا كلمةَ الحقّ
لأنهم أرادوا الابتسامةَ وتَمَنّوا الحياةَ
وأبصروا نورَ الشمسِ
ورفعوا أعينَهم نحو القمرِ
****
سُجِنوا لأنّ أحدَهُم اسمه موسى
وُلِدَ في أرضِ وَثَنٍ
يَعبدُهُ الناسُ كأنَّهُ إلهُ الزَمَن
فلم يَكُن لديه ذَنبٌ
إلا أنه لم يُقَبِّل يد العَفَن
ولم يَستُر عورةَ الجُبن
****
ولأن ثانيهم اسمه يسوع
كان قَدْ ذَرَفَ الدموع
على جائعٍ يَتضَوَّر من الجوع
وعلى عريانٍ يتعبّدُ لربّه
ويُوقِدُ لهُ الشموع
****
ولأن ثالثهم اسمُهُ محمّد
قَدَّمَ الشُكر للهِ والحَمد
****
ورابعهم عُمَر الفاروق
خلّصَ شعبَهُ من الشرّ
وأبصَرَهُم ضياءَ البدر
****
وخامسهم حُسَين بنُ الكرار
لأنه قاتَلَ حتى الموت
دَحَرَ العدو ولم يَلُذ بالفرار
****
ذاقوا طَعمَ الحَربِ الأهليّة
وامتَدَّ إليهم جورُ العِصاباتِ الشقيّة
مَكَثوا بين الفئران
تَلتَهِمُ أياديهِم الجرذان
ويَلسَعَهُم من الشمال ثُعبان
ومن الجنوبِ لِصٌ من الجيران
كان قلبُهُم يَرتَعِدُ حين سَماعِ أقدام السُلطان
تمرُّ كأنها أصواتُ جبان
يَصرُخُ وَيُنادي، يَتَجَوَّلُ بين الأروِقَةِ، يُهَشِّمُ الأبوابَ
ويَضرِبُ القطعان، كأَنَّهُ مُصابٌ بحالةِ هذيان
لم يتعلّموا
وأمسوا في جهلٍ وأُمِّيَّة
وانقَلَبَتْ عقول الفُهماءِ إلى أفكارٍ غَبِيَّة
ولم يُنصفهم لا بنو كَلب ولا بنو أُمَيَّة