في شوارع هذه المدينة الخلفية تسكن صرخات من صمت نسجها الغرباء
على شفاه حزن أضوائها !
ظلام الليل فيها وحده يتسلى بتلك النوافذ المهجورة تخفي في معالمها
بقايا حنين مكبوت منذ الأزل ،
_ ها هي مدينة خرساء حبلى بالحروب ، تحلم بمن يتبنى أحلامها لتستظل
بوشاح شرعية الأعراف المرسومة بقدسية المنطق ،
بدت أثار الشيخوخة مبكرة تحبوا لتعكر صفو ربيعها ، سياج الخوف
يحضنها ، يؤويها يوهما بدفء النسيان ..
_ مجروحة أنت .. أين ذاك الصبا من وهج القصائد يرتوي ،
كم من شاعر صاغ خيال كلماته من عطر أمنياتك ، وتغزل بجوارحك
_ أخطو بزوايا بيوتك العتيقة وأتأمل أبوابها ، كم فرحة أمل ، كم صرخة
الم ، كم دمعة حزن ، سكنتها
_ يعيدني سكونك إلى الماضي إلى تلك العجوز التي كانت تجلس على
عتبة هذه الدار نلوذ بأطراف ثوبها ،
_ ما زلت أتذكر تلك الوجوه الممزوجة بملامح البراءة دون إي خدوش
تركها القدر أو بقايا من لمسات الزمن ،
تعدنا من حولها وتأنس بنا وتبدأ دائما .. بتلك الكلمات كأنها صيغت لتكون
لنا وليس دوننا ،
_ سيأتي يوم يا صغاري يتيه فيه العاقل بطريق المجنون ويختلي الصديق
بعدوه تحت ضوء الخذلان ،
سيكون لكل فرد منكم طريقه المكتوب بحروف منسوجة من أسرار الأيام
وتكمل حديثها ،
_ هذه القلوب التي لم تعرف بعد كنه المراوغة ولم تدخل سجن الخيال
المبهم الذي ينتهي بعقم الآمل ،
صغاري هناك في قلاع القدر تختبئ دهاليز الصدف المحتالة ،
في طياتها مرايا تعكس ظلام النفوس متعطشة للنكران متباهية للهجر تبدأ
من الغروب وتنتهي بالشروق ..
_ غريبة تلك العجوز المتكهنة بالأيام كأن لديها مرآة المستقبل ،
كنت أحفظ كلماتها عن ظهر قلب ولم أكن أدرك معناها ،
_ كلما خطت السنين في طريق عمري أدركت معنى تلك الكلمات ،
كانت تأتي قدرتي على فهما بخطىٍ بطيئة ،
التجارب وحدها تعيدني إلى عمق قدرتها على فهم الحياة ، ما زلت
استنشق عطر طفولتي في هذا المكان ها هي مدينتي ثكلى ،
تنتظر على أبواب الصبر . ...
_ تشيخ الكلمات وتظهر ملامح الهرم على معانيها وتنتهي في برواز
التجربة كلما شاخت السنين ،
هكذا ادركت كلما ابصرت الافكار طريقي اكتملت الصورة ، كانت لتلك
العجوز حضورها بين موج الحياة
فهي تجالس الزمن وتختلي بالدنيا في رحاب خاطرها ، هي ونساء غيرها
من ذلك الزمان ،
نذرن أعمارهن للانتظار ، للصبر ، فاضت بحور أمومتها على أجيال ،
لازالت ذاكرتي تحتفظ بيوم حزن تلك العجوز الذي رافقها الى نهاية
المطاف ،
بقيت ترمق الزمن بنظرة عنفوان وتدله على كبريائها قبل ان يدلها عن
مصير ذلك الآبن الذي قدمته قرباناٍ لوطناٍ جريح
تجرعت كأس الحزن برشفة واحدة ، وخلدت له قبرا بين أضلعها
ليبقى عطره رفيق انفاسها ،
تثمل به أيامها ، يؤنسها في سكرات الموت
هكذا هي مدينتي تؤرخ أساطيرها على تاريخ الأجيال ، وتبني أحداثها
على صفحات الزمن المجهول .