امرٌ محزنٌ ان ترى افراد بيتك الذي تعيش فيه وتسعى لتحقيق سعادتهم ورفاههم دائماً وهم يقتتلون ويتناحرون, يتبادلون الاتهامات تارة, ويتلاكمون تارة اخرى. الامر مخزي ومعيب حقاً.. والاكثر خزياً وعاراً عندما تكتشف انك تعيش في وطن لا يحبذ السلام والامن والتعايش وقبول الاخر!!.. وهل يعقل اننا في العراق نعيش هذا الواقع؟ هل يمكن ان نصدق اننا شعبٌ لا يحترم بعضنا الاخر.. لا يتألم احدنا لوجع اخيه وجاره؟ ونحن تجمعنا ارضٌ واحدة, وسماء واحدة, ونشرب من ماء واحد!!
كثيراً ما ابهرتني تلك المئذنة الشامخة التي كنت اطوف حولها بعد خروجي من مدرستي الابتدائية, ولعلها كانت المئذنة الوحيدة في مدينتي الشعبية ببغداد, وكنت احاول دائماً ان احوّل مسيري عند عودتي الى ذلك الشارع المؤدي الى "جامع حليمة السعدية" رغم بعد المسافة بين بيتنا و ذلك الجامع.
كان يحوم في سماء عقلي سؤال حائر, ويتسلق اسوار وروحي عند مروري الشبه يومي من ذلك المكان الذي طالما شعرت بالأمان وانا اطوف حوله, ترى.. لمن هذا الجامع؟ انا على علم انه لم يكن لطائفتي الشيعة, لانهم لم يشيدوا في ذلك الوقت مسجدا او حسينية بمئذنة, ولكني لم ابلغ مرحلة اليقين بعد. توجهت بسؤالي الحائر الى والدي, فلاشك انه على علمٍ بمذهب المصلين الذين يواظبون على اداء صلاتهم في هذا المكان. والدي استهجن السؤال!! فأتضح لي ان السؤال عن امر كهذا مرفوض, وان هاتين التسميتين قد طرأتا عليّ من قبل شخصٍ لا يقدر حجم ان يخبر طفلاً في التاسعة من عمره انه ينتمي لمذهب يخالف مذهب النظام الحاكم في تلك الفترة!!.
خطوة الى الامام دعتني الى اقتحام غمار السواد المحتشد للصلاة داخل هذه البناية الرائعة, كان قراراً جريئاً, ان اصلي اليوم بين الغرباء, والاكثر جراءة انني سالت شيخ الجامع عن الفرق بين ان يكون المسلم شيعياً او سنياً! الرجل ابتسم بوجهي واجابني بلطف انه لا يوجد فرق ابداً, واستشهد بالمصلين الذين كان بينهم من اسبل يديه وهو يصلي, واخر كفّرها (كتّفها).
اما ابناء الانبار فقد كانوا مضرب الامثال في الكرم والترحاب الحار الذي تعجز الكلمات عن وصفه, وكنت على تماس مباشر بهم قبل سنوات بحكم العمل, ورغم الوضع المتأزم داخل العراق, حيث كانت الفتنة الطائفية لا تزال فتية, وتنتشر بسرعة خاطفة في ازقة وشوارع بغداد, ولم يبدي احد تلك الفترة رضاه وتقبله لتلك الطائفية المقيتة.. كانوا يتحركون داخل تلك الازقة والشوارع بثقة عجيبة, وكأنهم يتنقلون في مدنهم, ولولا تعرضهم لمرات عديدة للقتل, لكنت قد جزمت بانهم على ارتباط وثيق بتلك الجهات التي مررت المشروع الطائفي في بغداد على الاقل!! ولكنهم في حقيقة الامر كانوا ممن يحسن الظن بالآخرين, ويعتقدون ان القتلة الذين استباحوا دماء الشيعة والسنة في العراق دخلاء على هذا البلد وليسوا من ابنائه, وهو اعتقاد صائب!!
المشهد مشابه في محافظة ديالى, عندما هرع اهالي بغداد الى كهفها الامن يصارعون الموت تحت قصف القنابل العنقودية و رصاص البعث , حيث غصت ابو صيدا ودلي عباس و بهرز وبساتينها الخضراء بالعوائل البغدادية التي راحت تحتمي هناك, كان اهالي ديالى يتقاسمون معنا خبزهم ومائهم ومساكنهم واوقاتهم, وفي حلقات رجالية ونسائية, يتبادلون اطراف الحديث في تلك الليالي المظلمة, ومع انغام المدافع والقنابل والانباء المخيفة عن تراجع الجيش العراقي في محافظة البصرة.
ما الذي يحدث الان في الانبار والحويجة وتكريت وسائر مدن العراق؟ هل فقد العراقيون اكسير التعايش والانسجام مع بعضهم البعض؟ ام اننا بحاجة للعودة الى عهد بائد لم يجلب لنا سوى الموت والجوع والفقر لكي يشعر بعضنا ببعض؟ لماذا ينسى العراقيون فرحهم وحزنهم الجماعي؟ لا تزال بساتين ديالى الخضراء تشهد, ولا تزال تلك المئذنة الشامخة على مشارف "مدينة الصدر" في بغداد, ولايزال والدي يدعوني ان لا اكون صيداً سهلاً للمتطرفين.!! ما الذي حدث إذن؟؟