أعلن “بيرت ما كغورك” ـ مبعوث الرئيس “أوباما”ـ عن انطلاق عمليات تحرير الموصل، واصفا إياها بالمعقدة، الشيء الذي جعلني ـ اليوم ـ أراجع ما شهده العراق من سلسلة أحداث ومتغيرات وقرارات وأخطاء بعد العام 2003. ومما لا شك فيه، أن الولايات المتحدة هي الأكثر حرصا على إنجاح التجربة الديمقراطية في العراق؛ لما قدمته من تضحيات وما تكبدته من خسائر سياسية؛ كان لها الأثر السلبي على اختيارات الناخب الأمريكي. ولا يمكنها بأي حال من الأحوال، أن تترك بلدا ينجرف إلى مزيد من الانهيارات الأمنية والسياسية والاقتصادية؛ دون أن تعمل لتفادي ذلك، بل إن مصلحة المنطقة ـ التي تشهد حاليا متغيرات أمنية وعسكرية وصراعات إقليمية خطيرة للغاية ـ تفرض على الولايات المتحدة العمل بجد للخروج من هذه الأزمة.ويبقى المد الداعشي من أكبر الأخطار التي تهدد مختلف المناطق العراقية، حيث تتعالى الخطابات الداعية لتوحيد الجهود في مواجهة هذا الخطر المحدق الذي وصلت أيادي بطشه إلى “صلاح الدين” و”ديالي” و”نينوى” وغيرها من المناطق المحاذية ل “كركوك” غربا وجنوبا. وقد كان بالإمكان أن تقع “كركوك” أيضا، تحت بطش مليشيات “داعش”؛ لولا يقظة أهاليها الذين أحسنوا استقبال العوائل الهاربة ومختلف اللاجئين الذين وصل عددهم إلى ستمائة وخمسين ألف نسمة، وأيضا، لولا قواتها العسكرية المشكلة من البيشمركة التي أظهرت صمودًا بطوليا تحت سمائها التي تحميها قوات التحالف الدولي. وما كان يكون كل هذا؛ لولا وجود قيادة حكيمة على رأس الهرم السياسي للمدينة، تتمثل في محافظ “كركوك”، والذي بفضل استثماره الحكيم لتجارب دول مجاورة ومراكز بحوث كبرى، وبفضل تلقيه الدعم القوي من مختلف المكونات المحلية؛ استطاع أن يجنب “كركوك” الوقوع في أي من السيناريوهات المتعلقة بالاقتحام “الداعشي”، وبالتالي تفادي وقوع اقتتال بين مكوناتها. ومن خلال هذه التدبير الحكيم؛ قدمت “كركوك” نموذجا ناجحا للصمود والترابط بين مكوناتها المختلفة، ويكفي أن نستحضر انتفاضة السكان عندما وصلت “داعش” إلى مشارف المدينة، وما قام به البيشمركة من التصدي البطولي بصدورهم لنيرانها؛ لندرك قوة وروعة هذا التلاحم.
وإذا كانت “كركوك” قد قدمت نموذجا ناجحا عن المقاومة والصمود؛ فإنه بالمقابل هناك مناطق عاشت المعاناة تحت وطأة “داعش”، كما هو حال “الحويجة” التي مازالت بمختلف نواحيها ـ وبعد مرور أكثر من تسعة عشر شهراـ تعيش تحت الاحتلال “الداعشي” الذي يجثم على نحو نصف مليون مدني من سكانها، وغالبيتهم من العرب السنة.وإذا كانت هناك العديد من الدعوات التي تناشد، بل وتطالب محافظ “كركوك” بوضع خطط مدروسة ومنسقة بين جميع القوات على الأرض، مع نشر المئات من المتطوعين بجبال “حمرين” من أهالي “الحويجة” في سبيل تحريرها، فإن الرياح لا تأتي بما تشتهيه سفن تلك الدعوات، حيث اقتصرت خطة التحالف الدولي والحكومة العراقية على تحرير الأنبار، بالانطلاق صوب الموصل والفلوجة، وترك “الحويجة” محاصرة من قبل “داعش”. وهذا ما أصاب العرب السنة بالصدمة.نعم، الصدمة، صدمة الخوف من الخطر الكبير الذي يتهدد أكثر من تسعة عشر ألف عائلة عربية، إلى جانب أولئك الذين هربوا من الموصل إلى “كركوك”، حيث بات الجميع معرضًا للأسر أو القتل. وهناك أيضا ما يقارب سبعة عشر ألف عائلة من أهل “الحويجة” فروا إلى “كركوك”، وقد ترك البعض منهم عوائله تحت سيطرة تنظيم “داعش”. ويكمن الخطر الأكبر أيضا، في تلك الهجمات التي يشنها هذا التنظيم الإرهابي مستهدفا البنية التحتية ومشاريع الغاز والنفط والكهرباء بالدرجة الأولى.لا تكمن خطورة “الحويجة” في كونها جزءًا تابعًا ل”كركوك “فحسب، بل في كونها صارت تمثل رأس الأفعى داخل جسد “داعش” المتمدد فوق الأراضي العراقية، مما يجعل تحريرها أولوية الأولويات قبل تحرير الموصل، فإذا كانت “نينوى” تمثل جانبا معنويا للمجتمع الدولي؛ فإن “الحويجة” أضحت هي مركز إدارة وقيادة العمليات الإرهابية؛ فانطلاقا منها تشن هجمات على البيشمركة ب”الكزير” و”مخمور” شرقا، وهجمات أخرى باتجاه محاور “كركوك”، يشنها البيشمركة والحشد التركماني والقوات الاتحادية ب”حمرين” في الجنوب، إلى جانب دعمها المستمر للجبهات الأخرى قرب سامراء والفلوجة.إن طبيعة “الحويجة” ومكانتها الجغرافية تجعلها في المركز الثاني بعد “الرِّقَّة”، من حيث أهميتها بالنسبة لتنظيم “داعش”. فهي مدينة صغيرة؛ لكنها تضم أكثر من ثلاثمائة قرية، تم بداخلها تجميع مقاتلين أجانب، وضباط سابقين، وعناصر مجندة تم تشكيلها من الصغار. ومن ثم، فالأهمية الجغرافية لل “حويجة” تفرض على الجميع إعطاءها الأولوية، وتحريرها قبل جميع المدن، مادام بها رأس الأفعى، أي: تنظيم “داعش”.
فالتخطيط ووضع قوات على مشارف مدينة “كركوك”؛ هو أفضل من زجها لمسافات بعيدة قرب مشارف الموصل، حتى لا يقول أهل “كركوك”؛ وخاصة العرب: “إن قوات العالم وقوات الحكومة الاتحادية مرت على أرضنا “كركوك”، وأكملت سيرها باتجاه الموصل، دون أن تأبه لأمرنا.”إن القرارات والأخطاء والسياسات التي يدفع ثمنها الجميع؛ تفرض ـ اليوم ـ على صناع القرار الأمريكي أن يتنبهوا إليها، حتى يوحدوا جهودهم من أجل “الحويجة”، للعمل على تحريرها؛ حماية ل “كركوك”؛
وحفاظا على استمرارية تجربتها الناجحة، وحتى تصل الرسالة واضحة للمجتمع الدولي؛ تعكس مدى توحد قوات البيشمركة، والشرطة، والجيش، وأبناء العشائر، والكورد، والتركمان، والعرب، والمسيحيين، لمواجهة تنظيم “داعش” ودحره. كما أن هذا الترابط والاتحاد هو أقوى رد للقضاء على معاقل الفكر التكفيري المتطرف الذي ـ برغم اختلاف التسميات ـ عاش وترعرع بجنوبي “كركوك” وغربيها منذ العام 2003.لكل ما سبق، يبدو تحرير “الحويجة” أكثر أهمية من التوجه إلى الموصل؛ إذ سيمثل لمحة ضوء داخل هذا النفق المظلم الذي يعم العراق وباقي منطقة الشرق الأوسط.
مقالات اخرى للكاتب