لن نعود إلى التاريخ وبدايات التجارب الديمقراطية التي زرعها الأوربيون في الشرق الأوسط وتحديدا في كل من لبنان وإسرائيل وتركيا، حيث تعاني التجارب الثلاث من إشكاليات معقدة لا نستطيع الادعاء بأنها ناجحة بالتمام والكمال، خاصة وان تجربتين منها لم تتجاوز علاماتها في الامتحان النصف، أي 50 بالمائة إن لم تكن اقل، وهي الآن في لبنان بدون رئيس منذ فترة طويلة وبحكومة مشلولة ويعيش ( على الله ) كما يقال بتفرد احد الأحزاب بدولة داخل دولة، أما تركيا وحربها الداخلية مع معارضيها، فيكفيها اليوم من اعتقالات وطرد وهروب على خلفية ثقافة الانقلابات.
نعود إلى دول المختبر الديمقراطي التي تصر الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوربيون والمتفائلون من أمثالنا على نقل التجارب البريطانية والأمريكية والأوروبية الغربية خاصة، إلى بلادنا وشعوبنا التي تختلف من الأرض حتى السماوات عن شعوبهم، وفي كل مناحي الحياة، ابتداءً من المزاج العام وانتهاءً إلى علاقاتنا الأسرية والعشائرية والدينية، التي تتقاطع حد التقاتل مع مبادئهم وسلوكياتهم وأساسيات تطبيقاتهم للديمقراطية، التي لا تعني كما يعتقد البعض مجرد تداول سلمي للسلطة، حيث أجريناها كما أرادوا وفشلنا فشلا ذريعا، والدليل ما نشهده اليوم في حال بلداننا وحكوماتها وبرلماناتها التهريجية، وتذابحنا على السلطة بشتى الوسائل، فأدخلنا احدث طرق التزوير وشراء الذمم وكيفية قيادة القطيع وإيصاله إلى تلك الصناديق اليتيمة التي تمنح شارة وبراءة الديمقراطية العرجاء في بلداننا.
لم أجد تعبير أدق من دول المختبر الديمقراطي للإشارة إلى مجموعة دول الربيع العربي التي تتقارب في نشأتها وسلوكياتها ومعتقداتها وعاداتها وتقاليدها مع بعضها، وتعاني من أزمات حادة في مقدمتها أزمة تكوينها منذ البداية، حيث وضعت الأسس بشكل خاطئ أنتج حزمة معقدة من الإشكاليات البنيوية، وكرس القبلية والطائفية على حساب المواطنة، وابعد فكرة إقامة كيانات تقدمية على أسس معاصرة وأفكار خلاقة، ما جعل أنظمتها شمولية تعكس بناءها الاجتماعي القائم على الأحادية من بناء الأسرة وصولا إلى هرم السلطة، هذه الدول وفي مقدمتها العراق وسوريا واليمن ومصر والخليج وكل شمال إفريقيا ومن شابهها، تحتاج فعلا إلى فحوصات وتحليلات مختبرية دقيقة لاختيار شكل النظام السياسي الذي ينقذها من هذا التدهور المريع في معظم نواحي الحياة فيها.
ربما يرى البعض إن الديمقراطية هي الحل، بينما يرى آخرون إن الإسلام هو الحل، وقد أفشلت هذه الشعوب النظريتين أو التوجهين لحل اشكالياتها، فلا الديمقراطية أنقذت الكورد في تركيا، ولا الإسلام كنظام سياسي أنقذ العراق أو إيران أو أفغانستان من الصراعات والتذابح، وفشل النموذجان في التطبيق لحل أو معالجة التعقيدات النفسية والاجتماعية والسياسية في تكوين هذه المجتمعات، وإزاء ذلك يرى أصحاب الخيار الشمولي بشقيه الدكتاتوري الفردي أو النخبوي بأنهم الأفضل على خلفية تداعيات ما حصل وما زال يحصل في تلك البلدان، لكونهما فشلا في إثبات أطروحاتهما في العدالة والأمن والسلم، ورغم أن كثيرا من هذه الدول تحتضر في مختبرات التحليل، وتحال إلى الطب العدلي وقاعات التشريح، واحدة تلو الأخرى لإثبات سبب الوفاة، بعد أن فشل كل المحللين وعلماء المختبر من أن يتعرفوا على أنواع الفيروسات المستوطنة في مفاصلها، فان آخرين يؤمنون بوجود آمال ما تزال تظهر في الأفق هنا وهناك لإنقاذ ما تبقى منها.
وحتى تثبت الأيام فشل أو نجاح هذه التجارب ادعوكم قرائي الأعزاء إلى اقتراح حلول وأفكار أخرى ربما تعين مختبرات السياسة والمنظرين بعيدا عن الحلول التي أنهكت وأغرقت هذه الدول بالدماء والفساد والإرهاب.
مقالات اخرى للكاتب