لم يعد خافياً على أحد أن الجماعات الإرهابية التي تتبرقع بالإسلام هي صناعة غربية أنتجتها دوائر استخبارية مستعينة بخبراء ذوي معرفة عالية بالتراث الاسلامي وما فيه من صفحات سوداء او بيضاء، فاختاروا اكثرها قتامة وقسوة وتخلفا عن العصر، ألا وهو الفكر التكفيري المتحجر الذي لا يسمع إلا صوته، ولا ينظر ابعد من أنفه، ولايعترف بوجود الآخر، لأن المخالف له هو في رأيهم كافر يجب أن يلقى حتفه! وصادف ان هذا الفكر موجود أو مولود في حضن دول او (مشيخات) سائرة في ركاب الغرب، لأنه هو الذي أوجدها ووفر لها الحماية، خاصة بعد اكتشاف الذهب الأسود فيها.
فكانت الحركة الوهابية هي المعبّر عن ذلك الفكر، فقد كفرت من لم يوافقها الرأي من قبائل نجد، كما كفرت العثمانيين الأتراك، وكذلك حكام مصر من أسرة محمد علي وكل من يخدم في هذه الدولة، بل وحتى عامة الناس الذين لا يرون رأيهم، حتى وان كانوا من نفس مذهبهم. ومن هنا كانت غاراتهم على الحجيج القادم من مصر والشام وبلدان المغرب العربي وغيرهم. أما الشيعة والصوفية والأشاعرة والمعتزلة والأباضية وغيرهم فهم ما بين كفار أو مبتدعة، ولنا أن نتصور طبيعة الأحكام التي يصدرونها ضدهم!!
وقد استغاث علماء السنة في الحجاز بالسلطان العثماني لحماية المقدسات في مكة والمدينة من اعتداءات الوهابيين الذين سيطروا على نجد بعد مجازر دموية وغارات جاهلية ارتكبوها بحق القبائل العربية التي عارضتهم ورفضت فكرهم المتطرف، فطلب السلطان العثماني من حاكم مصر محمد علي باشا بالقضاء عليهم، وتم له ما اراد على يد القائد ابراهيم باشا نجل محمد علي الذي جهز جيشا الى الحجاز ليطهرها ثم يصل الى الدرعية ليقضي على دولتهم الاولى ويأسر زعيمها ويسلمه للسلطان الذي وضعه في السجن. ودالت دولتهم حتى احتلال بريطانيا لامارات عربية في الخليج فكان عبد العزيز آل سعود مع ابيه وافراد اسرته يعيشون لاجئين في الكويت، فساعدته بريطانيا للسيطرة على نجد ثم مكنته من الحجاز واجبرت الشريف حسين على الخروج من الحجاز وعاش سجينا في قبرص حتى وفاته فيها. واعلن عبد العزيز نفسه سلطانا على نجد والحجاز ثم اسس ما سمي بالمملكة العربية السعودية، التي قامت على معادلة اعطاء النفط لبريطانيا ثم اميركا واية دولة غربية تسير في ركابهما، وكذلك تنفيذ السياسات التي يريدونها حتى لو كانت معادية لتطلعات الشعوب العربية، مقابل شيء اساسي هو الحماية! وهكذا فقد
كانت السعودية منذ تأسيسها وحتى اليوم تعتمد على الدعم العسكري المباشر من قبل اميركا وبريطانيا وغيرهما. وبالامكان مراجعة تاريخ هذه الدولة وحروبها مع جاراتها منذ العشرينيات من القرن الماضي وحتى اليوم للتأكد من هذه الحقيقة.
لقد كان سلاح التكفير الذي توفره المؤسسة الدينية الوهابية ضد المسلمين الذين يخالفونهم الرأي او المذهب، هو من أخطر الأسلحة التي تفتك بالشعوب والمجتمعات، وتنسيها الكثير من المخاطر التي تحيط بها، ولذا تلقفته الدول الغربية (أمريكا واوربا) لتفتيت العالم العربي والإسلامي على أساس مكوناته الإثنية والدينية والمذهبية، وصار سياسة ثابتة لتركيع الشعوب والدول التي لا تخضع لإملاءاتها. وقد ساهمت حرب (الجهاد) ضد الغزو الروسي لأفغانستان في إنشاء تنظيمات (إسلامية) مسلحة، بتخطيط وتدريب (أمريكي/ اطلسي)،وتمويل (سعودي/خليجي)، وفتاوى وهابية متطرفة يجمعون بها الشباب المغرر به تحت لافتاتها. كانت مصر فد خرجت من الصراع العربي الإسرائيلي، حينما وقع السادات اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 وأعلن أن حرب أكتوبر 1973 هي آخر الحروب!!
وما بين (الجهاد) في أفغانستان والحرب ضد إيران اضحت فلسطين قضية منسية، وهو ما تريده إسرائيل لكي تلتهم مابقي من فلسطين، عن طريق الاستيطان وغيره.
وقد وجدت إسرائيل في الجماعات الإرهابية التي عادت من أفغانستان متغولة متوحشة ضالتها المنشودة، لأن هذه الجماعات لايهمها محاربة الكيان الصهيوني بقدر ما يهمها الدخول في صراعات مع الأنظمة والمجتمعات العربية والإسلامية التي تعتبرها جاهلية، فدخلت في صراعات دامية مع الدولة في مصر ثم في الجزائر التي دخلت ما يشبه الحرب الاهلية التي استمرت عشر سنوات، وحصدت ارواح الالوف من ابناء الجزائر، ولذلك سماها الجزائريون (بالعشرية السوداء)!!
وجاء ما سمي بالربيع العربي لتكتمل المهمة، وتبلغ أوجها في النفخ بنار الطائفية والمذهبية وتعميدها بالدم والتمثيل بالضحايا وارتكاب المجازر البشعة، حتى لا تبقى هنالك خطوط للرجعة والمصالحة بين المكونات العرقية والدينية المتعايشة منذ مئات السنين. وراح شيوخ الفتنة وزبانية جهنم القابعين قرب القواعد الأمريكية والبريطانية والفرنسية في الخليج يناشدون ويتوسلون بالإدارة الأمريكية والدول الأوروبية للتدخل في ليبيا وسوريا لدعم المعارضة وإسقاط النظام، بينما كانوا يصدرون الفتاوى التي تدعو الشباب المتحمس الذي خضع لعملية غسيل دماغ للسفرالى العراق لمقاتلة المحتل الأمريكي والسكان المدنيين، فكان ضحاياهم من العراقيين أضعاف أضعاف ما قتلوا من الأمريكان، هذا والأمريكان وغيرهم من رعايا الدول الغربية يسرحون ويمرحون في دول الخليج، ومهماتهم عسكرية او أمنية أو مدنية، ولهم قواعد عسكرية في تلك الدول، ومع
ذلك لا يتعرض لهم احد من هؤلاء الارهابيين ولا من شيوخهم الذين يصدرون لهم فتاوى القتل والتفجير!!
واليوم يعود الإرهاب ليضرب فرنسا.. سبحان الله..لقد كانت فرنسا من اكثر الدول التي شجعت الارهابيين على الذهاب الى سوريا للقتال الى جانب المنظمات الارهابية في سوريا والعراق، وكانت تغض النظر عن نشاطهم في فرنسا وبقية الدول الأوروبية على الرغم من التحذيرات الكثيرة التي وجهت لها ولغيرها، بأن هؤلاء سيعودون الى فرنسا كالقنابل الموقوتة التي سوف تنفجر في اية لحظة، وهو ما حصل فعلاً. فهل ستتعظ فرنسا مما جرى لها في قلب باريس، أم ستخضع وتخنع للمال الخليجي والتهديد الصهيوني الذي يلعب دوراً رئيسا في توجيه الجماعات الارهابية؟ ونود الإشارة أخيرا الى ان الارهاب لن ينته ما لم تجفف منابعه الفكرية المتمثلة في الفكر الوهابي التكفيري والسماح بنقده نقدا علميا من قبل العلماء الذين منعوا من التعرض لهذا الفكر منذ رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، وتخلي انور السادات عن دور مصر القيادي في المنطقة لصالح المملكة السعودية، والمال الخليجي بوجه عام. كذلك مراقبة ومنع القنوات الفضائية التي توزع الكفر على الناس، وتحرض على القتل والارهاب، والا سوف نتوقع المزيد من هذه الاعمال الاجرامية!
مقالات اخرى للكاتب