يقوم طفلي بمراجعة دروسه في التاريخ بغرض استظهار محتواها من أجل الامتحان. يفاجئني بسؤال: "أقرأ أي درس أول؟" فأجيبه بلا مبالاة: "حروب الردة". بعد أن ينتهي من قراءة ذلك الدرس، يسألني: "ماذا أقرأ الان؟" يسقط في يدي؛ إن ولدي "المتفوق" في الصف السادس، لا يستطيع أن يحدد أي درس يقرأ، لأنه في حاجة لمن يقول له ماذا يقرأ وكيف يقرأ. وهو في حاجة بالطبع لمن يقوم بالتسميع له. والتسميع، لمن لا يعرفه، يعني أن يقوم شخص ما (الأم غالباً) بالاستماع للطفل وهو "يتلو" المحتوى غيباً، بينما الأم تتابع في الكتاب صحة حفظ الطالب وإتقانه للمحتوى. هذا هو حال التعليم في هذه اللحظة: العام 2016.
أمي "لحسن الحظ" كانت أمية لا تقرأ ولا تكتب. لم يكن هناك شخص موثوق ليقوم بتوجيه عملية الحفظ وتفاصيل تنفيذها. أمي كانت لا تميز ما أقرأ، ولذلك كنت أقرأ ما يحلو لي: منشورات سياسية، مجلات جنسية، روايات محمد عبد الحليم عبدالله وجورجي زيدان (كم كنت أعشق روايات تاريخ الإسلام). أمي كانت تشفق علي من القراءة، وترجوني أن أرحم نفسي من السهر حتى الفجر. وكانت تقول "يلعن أبو المدارس كلها، انت بدك تعمى حالك من شان الدراسة." كانت تتوهم أنني أسهر من أجل قراءة كتب المدرسة والامتحانات.
كانت القراءة ممكنة أكثر بكثير من الوقت الراهن. وكان بناء العقل القادر على التفكير والتدبر والتصرف متاحاً أكثر بكثير جداً من الزمن الحالي. اليوم كما لاحظنا أعلاه لا تكتفي الأمهات (وأحياناً الآباء) بتفاهة الكتاب المقرر "المعلب" تماماً من أجل أن يقوم الطالب بحفظه، ولا يثقن بأن المعلم يقوم بما يلزم لتسهيل عملية الحفظ الصم على الطالب، إنما يتطوع الوالدان لإكمال المهمة على أفضل ما يكون، محددين للتلميذ التفاصيل المملة لخطوات حفظ المحتوى، حتى أن الطفل يصبح عاجزاً عن "وضع خطته الخاصة" ل "بصم" المادة.
أما التكنولوجيا فدمرت عقل الطالب ووقته نهائياً:
أولاً: سطت الأجهزة المختلفة على وقت الطالب واهتماماته بتزويده بعالم كامل من الألعاب التي تدمر جهازه العصبي الحركي وعيونه دون أن تفيده في أي شيء على الإطلاق. ألعاب تتطلب تحريك أصبع أو أصبعين مع متابعة الشاشة بيقظة وتوتر مرعبين.
ثانياً: سمحت الأجهزة المتاحة بإطلاق مارد الاهتمامات "التجارية" الرأسمالية من قبيل كرة القدم وصناعة الجنس والمحتويات الإباحية بأشكالها المختلفة.
ثالثاً: خلقت الوهم المريع بأن "الحقيقة" على بعد كبسة زر يقدمها على طبق من ذهب "جوجل" أو "فيس بوك" أو "ياهو". وهذا يتحقق على حساب القراءة الجادة في معظم الحالات التي تسمح للمرء بمقاربة الواقع على نحو أكثر جدية بدلاً من أن يتحول إلى عبد لسوق الأيديولوجيات التي تسود الشبكة العنكبوتية.
رابعاً: دمرت "صبر" الجيل تجاه عملية القراءة، فأصبح المطلوب محتويات قصيرة "مكبسلة" لا تحتاج إلى جهد أو وقت لقراءتها أو فهمها أو تفكيرها.
بالطبع أردنا التركيز على نواح معينة ولم نهدف إلى قراءة تأثيرات التقنية المريعة على صعيد العلاقات الإنسانية والاجتماعية وبناء الوعي –أو تشويهه-...الخ
شكراً للصدفة السعيدة التي سمحت لي أن أنمو قبل أن تصل البشرية إلى هذا المستوى من هيمنة الوحش التقني على حياتها.
يتردد الكلام هنا وهناك أن وزراة التربية التابعة للسلطة الفلسطينية تطمح إلى "إغراق" العملية التعليمية بالمزيد من الأجهزة ومن التقنيات، ونحن على ثقة أن نتيجة ذلك ستكون المزيد من الخراب والجفاف في عقول صغارنا وأنفسهم، وإن يكن ذلك مما يثلج صدور أصحاب الشركات التي تصنع الأجهزة والتي تسوقها على السواء.
وفي هذا السياق أيضاً نود الإشارة إلى حالة الهوس المريعة بموضوعة التقنية، وخصوصاً ما يتصل بالشبكة العنكبوتية. وهو ما يؤدي إلى ظواهر من قبيل "رام الله مدينة ذكية"، بمعنى أنها تقدم خدمة النت في الشارع حتى نستمر في "التشات" بأنواعه والألعاب بأصنافها. غني عن البيان أن وصفة "رام الله الذكية" ترضي غرورنا. ومن هذه الجهة ما تزال بكين غبية (التي تعد من أكبر الصانعين والمسوقين للأجهزة "الذكية" بأنواعها)، وما تزال كوريا الشمالية (فجرت قنبلة هيدروجينية منذ وقت قصير) كلها غبية، وما تزال موسكو غبية، ومعها معظم مدن الولايات المتحدة ودول عديدة في أوروبا ناهيك عن آسيا وأفريقيا.
لكن استهلاك منتجات التقنية الحديثة لا يعني أن المرء أو البلد قد حقق أي تقدم، وإلا لكانت الإمارات وقطر والكويت في قائمة الدول الكبرى لأنها أكبر المستهلكات لكل شيء تنتجه الرأسمالية الكونية.
نتذكر أن بيل جيتس قد مول منذ عقد ونصف دورات في رام الله –والضفة عموماً- لتعليم "قيادة الحاسوب" على نطاق واسع جداً. فرح بعض أصحاب النوايا الطيبة لأنهم عدوا ذلك قفزة على طريق "التقدم". بالطبع تلا ذلك امتلاء الدكاكين بالأجهزة وعروض تسويقها الميسرة حتى وصلت البيوت الفلسطينية جميعاً. واليوم يريدون أن يحمل كل طفل جهازاً أو جهازين، وهكذا يصبح لدينا "أطفال أذكياء" في الاستهلاك مثلما هي رام الله الذكية. لكنهم سيفقدون ما تبقى من قدرة على القراءة أو الفهم أو التذوق أو التفكير أو القدرة على إنتاج أي شيء.
سيكون لدينا جيل من المستهلكين الذي يفتقرون إلى المهارات العقلية –وربما الجسدية- كلها لأنهم متخصصون في ألعاب الأجهزة الذكية التي تحول البشر إلى أجهزة غبية. وذلك يجب أن لا يدهش أحداً، لأن بناء الجسد يتطلب تمرينه في الهواء الطلق عن طريق الأنشطة الرياضية المعروفة منذ ألعاب اليونان الأولمبية القديمة. وأما بناء العقل فيتطلب تمرينه عن طريق التركيز على اكتساب مهارات القراءة والفهم والقدرة على تذوق المقروء ونقده وتقييمه وإعادة تركيبه.
ويلزم في السياق ذاته أن تبدأ عملية واسعة للتدريب على أنماط التفكير المختلفة وعلى رأسها تلك المستندة إلى قواعد المنطق. وبالطبع لا بد من أن تكون المدرسة "ورشة" للتدرب على مهارات التفكير العامة التي تعني البشر جميعاً، وكذلك الخاصة التي ينفرد بها كل حقل معرفي على حدة. أما بناء قدرات المتعلم على البحث وشروط ممارسته وسياقه المتصل باحتياجات الوطن فهي غيض من فيض. وهذه الوصفة تبدو في مستوى الكلام سهلة –لأننا كتبناها في بضعة جمل- لكنها في التطبيق تحتاج عملاً دؤوباً وشجاعاً وذكياً ومخلصاً لزمن لا يقل عن عشرين سنة مثلما تثبت تجارب الآخرين في كوريا الجنوبية أو اليابان أو الصين او ماليزيا. لكن قبل ذلك سنحتاج جهداً هائلاً لإقناع المفتونين بالأجهزة الذكية أنه حتى لو صح الزعم بأنها ذكية، فإنها ذات أثر حاسم في إنتاج البشر الأغبياء الذين لا يعرفون عنها شيئاً أكثر من ابتياعها و"استهلاكها".
مقالات اخرى للكاتب