1 - المقدمة : في الشعر الجاهلي
يكاد ينفرد الشعرالعربي من بين أشعار أمم العالم بخصوصيته وموسيقاه الغنائية على مستوى أوزان بحوره من مجزواءاته ومشطوراته ومنهوكاته حتى تفعيلاته المستحدثة ، وقوافيه بأنوعها الشجية والحاسمة والمهابة والهادئة المتأملة والمتسارعة اللاحقة لألفاظها المتباينة من المترادف حتى المتكاوس ، اضف إلى ذلك نحو لغته وصرفها ، وحركات حروفه وحروف علته . وقد ذهب العرب إلى أشواط بعيدة،وسبروا أغواراً عميقة في مجالات الشعر وجودته بأساليبه البلاغية ، وبدائعه اللغوية ، وقواعده النحوية ، وسمو معانيه ، وإيحاءته التخيّلية , وصوره الإبداعية ، وتشبيهاته الفنية، وأركانه العروضية وقوافيه الشجية ، وسعوا جاهدين لإثرائه ، واعتبروه ديوان العرب ، لأنهم تيقنوا أنه الرافد الأساسي الثاني للحفاظ على لغتهم بعد القرآن الكريم ، وذلك في عصورهم الزاهية، وأيامهم الغابرة , ولم يبخل زعماؤهم وقادتهم في رفع شأنه ، والحرص عليه والزهو به ، وتبجيل مبدعيه و ملهميه وتكريمهم .
وهذا الإثراء للشعر ، أمّا أن يأتي عقبى سعيٍّ مدروس ، و اجتهاد مقصود ، أوأفكار حرّة مبدعة ملهمة ، والأثرى ما يستجد من انصهار العقل بالإلهام لينبزغ التجديد ، وقد يطلق عليه التطور ، إذا امتزج التجديد بطفرات لا إرادية إيجابية (يتحفظ الإسلاميون على هذه الكلمة في علومهم الدينية ، لأنهم لا يؤمنون بالإبداع في الدين ، ويعتبرونه بدعاً ، ونحن نتكلم عن الشعر ، وبعضهم يربط الإثراء ، أو بكلمة أدق الأسلوب المتجدد والطريقة المستحدثة بالزمن أو العصر وتداخله مع الأمم الأخرى فيذهبون إلى المعاصرة أو الحداثة ، وهذا لا يعني إلغاء الماضي ونتاجه ،لأنه يعتمد على الخيال المنبثق من واقع الحياة بجميع أبعادها وترابطها (لا الوهم) ، و المتدفق في كل لحظة شعرية بزمنها المطلق ، والتجارب الإنسانية بعموميتها ، ولا يعترف بالواقع الآني المحدود الزائل , فهو يُكتب لكل الأزمنة ، ومن الأبدع أن يعمم مضمونه على جميع الأمكنة ، والشعراء لا يلغي أواخرُهم أوائلََهم ، ومن الأروع أن يتأثر مشرّقهم بمغرّبهم والعكس ، وكما ذكرت مقدماً ومعمماً ذهب الأقدمون مثل الفراهيدي في (عروضه) ، وقدامة بن جعفرفي (نقده) ، وأبي هلال العسكري في (صناعتيه) ، وابن رشيق القيرواني في (عمدته) ، وابن خلدون في (مقدمته) إلى أن مقوّمات الشعر أربعة (اللفظ والمعنى والوزن والتقفية ) - وقد توسعنا في هذه الأركان سابقاً - والأن نبين باختصار، اللفظ يختلف من أمة إلى أمة ، وقد استقر اللفظ العربي بقواعده وصرفه ولغته ، ولكن يجب أن ينسجم مع المعنى من حيث الرقة والقوة والعنف ، وله صفة الجرس الموسيقي ، وغير مبتذل ، والمعنى مشاع ويرى النقاد المحدثون يجب أن يصب في صور خيالية (1) ، سنعرج على التجديد في الأساليب والأغراض الشعرية ، ونركز على ما استجد في الأوزان والقوافي للشعر الموزون حصراً .
كلّ شيء يبدأ من شيء ، ثم ينمو ويتطور ، فيتميز ويتخصص ، ولابدّ من أن تتخلله أبان مسيرته طفرات ، وهذه الطفرات أما أن تسمو به للتجديد والتحديث الذي تتلاقفه الأسماع والأذواق لنشوة الأنغام والألحان ، وتتشربه النفوس والأرواح للذة المعاني والبيان ، أو تحط ّبه هذه الطفرات إلى العقم والسقم والأندثار , فالبقاء للأصلح الذي يفرض نفسه على الأمة ومزاج وتراث وطبع وتطبع أبنائها المعاصرين ، وتلاقف أجيالها المستقبلين .
بدايات إيقاع الشعروحلقات تطوره المفقودة :
على مستوى الإيقاع لابد أنه ولد مع ولادة الإنسان في مراحله البدائية ، إذ يناجي نفسه بدندنات لبث آهاته وأشجانه لآلامه ولذاته ، أو يناغي من حوله لاختراق حدود وجدانه بعواطفه و انفعالاته ، والدوافع لإشباع حاجات نفسية فردية أو جمعية أو طبيعية حيوية وغير حيوية ، والإنسان العربي في عصره الجاهلي بدوي في نزعته وترحّله ، والترحال في صحراء بيداء مع أبله ، يتطلب الدندنة والحداء حسب سير الأبل لاستحثاثها ، ويسرع بسرعتها ، ويضطرب باضطرابها ، ومع الحداء لابد من تقفية لاستقامة النغم والوزن ، فانبثق السجع الذي يختلّ باختلال الحادي لصاحبه !! وإذا أجهد نفسه الحادي غناءً حتى التعب والإعياء يدعى بالناصب ، والحداء يسمى (النـَّصْب) ، فيكون أعذب رقة ، وأكثر جديّة ، ويغنى جمعاً ، وعندما تكون الرحلة جماعية لمسافات طويلة ، وأراضي وعرة ، تهدف لغاية محددة كالسعي للحصول على الماء والكلأ ، فيتحمس الجمع لإطلاق الأناشيد الحماسية ، ويقال لهذا الضرب الحافل بـ (الركبانية) ، وتطورت الركبانية إلى استخدام الأدوات والآلات الموسيقية الوترية والنافخة ،وضرب الدفوف والرقص واللعب بالسيوف ، واطلق عليه (القلس) ،ولهذا القلس علاقة بالتقاليد الدينية والاجتماعية عند العرب ، ويماثله (التهليل) وهو ظاهرة تعبدية ترتفع فيه الأصوات ترتيلاً بأسجاع هدفها التلبية بالدعاء غير مرفق بآلات فنية ، و(التغبير) وهو أكثر عنفاً من سابقه يصل حد التمرغ بالتراب ، وأعلى صراخاً بأسجاعه التعبدية ، ومن بعد الأناشيد الدينية ، حيث استمرت هذه الظواهر حتى بعد الإسلام (2) . إذ سجع المسلمون عند فتح خيبر قائلين :" الله أكبرْ ، خِربتْ خيبرْ " ، وحتى (التلبية) ، هي كلام إسلامي وسجعها من تراث العرب الجاهلي : " لبيك ربّنا لبيك ، والخير كلـّه بيديك .." .
ومهما يكن ، لما كان السجع مادة الظواهر الغنائية والتراتيل التعبدية السابقة مضطرب الوزن يعوزه الإبداع الفني المتطور ، والأذن المرهفة ، تدخـّل العقل بفكره وذهنه ، والموهبة الفنية الفطرية لترتيب الدندنات بصورة منتظمة على شكل أسباب خفيفة متتالية (/ه/ه/ه/ه/ه/ه/ه/ه/ه/ه /ه/ه ...) ، ولمّا كانت هذه الدندنات رتيبة مملة ، حاول البدوي المرهف أن يقلل من الرتابة الإيقاعية ، فحذف الساكن الثالث من كل أربعة أسباب خفيفة ، فتشكلت تفعيلة الرجز ( /ه/ه//ه مستفعلن) على الفطرة والسليقة والسماع لتشكيل النغم الموزون الفني دون دراسة وبحوث ، فإذا وردت تفعيلتان يتولد الرجز (المنهوك : مستفعلن مستفعلن /ه/ه//ه /ه/ه//ه) ، وإذا كانت ثلاثاً فيتكوّن (المشطور ) ، وأربعاً فـهو (المجزوء) ، وستاً يتم (التام) , لذلك الرجز أبسط البحور نظماً حتى أنه يسمى مطية الشعراء ،وهو أقرب إلى النثر ، ولكن هل نتخيل أو نعرف متى تشكلت جميع البحور وتفرعاتها ؟ كلا...!! ولكن الأخفش الأوسط قد خصص في (قوافيه ) ما كان يعرفه العرب من أنواع الشعر في جاهليتهم بعد أن أدخل على قولهم ما تعارف عليه علماء العروض في عصره كأسماء البحور وتمامها قائلاً : " سمعت كثيرا من العرب يقول : جميع الشعر قصيد ورمل ورجز. أما القصيد فالطويل ، والبسيط التام، والكامل التام والمديد التام والوافر التام والرجز التام. وهو ما تغنى به الركبان، ولم نسمعهم يتغنون إلا بهذه الأبنية. وقد زعم بعضهم أنهم يتغنون بالخفيف. والرمل كل ما كان غير هذا من الشعر وغير الرجز فهو رمل. وا لرجز عند العرب كل ما كان على ثلاثة أجزاء ، وهو الذي يترنمون به في عملهم وسوقهم ويحدون به. وقد روى بعض من أثق به نحو هذاعن الخليل . " (3)
ثم كيف وصلنا الشعر العربي ناضجاً تمام النضج تشكيلاً ومضموناً على لسان الشنفرى (ت 510 م) ، والمهلهل (ت 531 م) الذي يقال عنه : أول من هلهل بالشعر! وامرئ القيس (ت 540م) ؟ أثارَ العرب ومؤرخوهم جدلاً وهرجاً ومرجاً حول بيت امرئ القيس الذي عرّج فيه على (ابن حذام) الغابر المجهول - بالنسبة لنا - وذلك في قوله (الكامل) :
عوجاً على الطلل المُحيل لأننا *** نبكي الديارَ كما بكى ابن حذام ِ(4)
إذ اختلفوا في اسمه ولقبه ووجوده ورواية بيته ، وأكثر من أشاع اسمه ، ونوّه بلقبه ، ونعته شاعراً ابن سلام الجمحي ( ت 231 هـ) في (طبقاته ) قائلا : " وهو رجل من طيء لم نسمع شعره الذي بكى فيه ولا شعراً غير هذا البيت الذي ذكره امرؤ القيس " (5) , ويذكر البغدادي في (خزانته) : " وابن خذام بالخاء المعجمة أشهر وقيل هما اثنان... ويقال: إن هذا البيت الذي في قصيدة امرئ القيس له وهو: ( الطويل) .
كأني غداة البين حين تحملوا *** لدى سمرات الحي ناقف حنظل " (6)
مما يؤكد إشارة امرئ القيس قول عنترة بن شداد العبسي في مطلع معلقته :
هل غادر الشعراءُ من متردمِ*** أم هل عرفت الدار بعد توهمِ
وهناك بيت آخر له يصب في المعنى نفسه :
ولقد كررتُ المهر يدمى نحرُه *** حتى اتقتني الخيل بابني حِديم ِ
وما ذهب إليه زهير بن أبي سلمى :
ما أرانا نقول إلا مُعارا*** أو مُعاداً من قولنا مكرورا
يا ترى أين ذهب شعر ابن حذام أو ابن خذام وقيل ابن حمام و ابن خزام ، وعنترة يجعلهما (بابني حديم) ، وهكذا ذهب عبد القادر البغدادي في إحدى رواياته ؟!! بل أين أثر الشعراء الذين لم يتركوا شيئاً لعنترنا أن يقوله ، ولحكيمنا زهير أن يستعيره ويعيده ؟!!
نعم ذكر لنا بعض الرواة أسماء لا تجدي نفعا ، ويرى ابن سلام أن أول ما وصل إلينا من الشعر قول العنبر بن عمرو التميمي راجزاّ :
قَدْ رَابَني من دَلْوِيَ اضْطِرَابُهَا
والنَأيُ في بَهـْرَاء وَاغْتِرَابُـهَا
إنْ لا تَجِئْ مَلأىَ يَجِئْ قِرَابُهَا (7)
وهذا العنبر جد بني العنبر من تميم ، كان جاراً لقبيلة بهراء من قضاعة ، فإذا أنزل دلوه جاءت فارغة ، لأنها غريبة ، ولو كان بين قبيلته لجاءت ممتلئة أو تكاد .
ومن بعد العنبر ورد قول سعد ومالك ابني زيد مناة التميمي .
يظل يوم وردها مزعفرا***وهى خناطيل تجوس الخضرا
فردت عليه النوار زوجة اخيه مالك نيابة عن اخيه الذي لايستطيع قول الشعر وعلى لسانه
أوردها سعد وسعد مشتمل ***ما هكذا تورد يا سعد الإبل
والشطر الاخير من بيت نوار ذهب مثلا إلى يومنا هذا ، وسبب قول البيتين ان مالك كان يرعى الابل وفي يوم زواجه من النوار رعى عنه اخيه سعد الابل ، وقال سعد البيت الأول ، فاجابت عليه النوار ببيت مثله نيابه عن مالك . والنوار هي بنت عجل بن عدى بن عبد مناة بن أد واد هو اخ تميم ، ويُنسب أفراد قبيلة تميم بـ ( التميمي) إلى هذا الـ (تميم) .
ويقول أبو العلاء المعري في (فصوله وغاياته) : " ويقال : إن المثل لمالك أخى سعد هذا؛ وذلك أن مالكا كان ترعية وكان يكفي أخاه سعدا أمر الإبل، فأعرس مالك بامرأته واعتمد على أخيه سعد في سقى الأبل أيام عرسه، فنظر إليه وهو قاعد مع امرأته وقد أوردها مشتملا أي قد اشتمل بثوبه . " (8) ، وكما ترى هي نتف دون المقطوعات ، وليست بقصائد عديدة الأبيات ، ولما هلهل المهلهل قاربت قصيدة له ثلاثين بيتاً ، كما حفظها الرواة ، وتناقلها عنه رواة آخرون ، وإلى هذا ذهب الدكتور جواد علي في (مفصله) قائلاً :"إنّ المهلهل كان أول شاعر وصل شعره الينا أبياتا زاد عددها على عدد ما وصل الينا من شعر أي شاعر تقدم عليه، وانه أول من رويت له كلمة بلغت ثلاثين بيتا، فذلك أمر آخر لا صلة له بدعواهم ان الشعر كان قبل المهلهل رجزا وقطعا، فقصده مهلهل، ثم امرؤ القيس من بعده . وظل الرجز على قصره بمقدار ما تمنح الدلاء،أو يتنفس المنشد في الحداء " (9) ، ولكن ما خلـّفه امرؤ القيس والشنفرى ناهيك عن معاصرهما المهلهل ، إذ شعره لا يبلغ شأو شعرهما ، دليل على الجذور العميقة ، والأعماق السحيقة لشعرنا الجميل ، معلوماتنا عنها شبه معدومة ، لأنّ أمتنا كانت أمة سماع ورواة ، لا أمة تدوين ودواة , , فهنالك سلسلة حلقات لتطوره , ومراحل تجديده منذ البدء مفقودة , والجمحي أشار إلى هذا وأبعد ، إقرأ ما دار في ذهنه " ...وكان الشعر عند العرب ديوان علمهم ومنتهى حكمهم به يأخذون وإليه يصيرون. فالشعر عند العرب له منزلة عظيمة تفوق منزلة تلك الأبنية. ومع إهتمام العرب العظيم إلا أننا لم نقف على محاولاتهم الأولى، وإنما وجدنا شعراً مكتمل النمو مستقيم الوزن تام الأركان..." (10) .
مهما يكن من أمر مع قناعتي بوجود حلقات مفقودة لشعراء سبقوا الأولين المعروفين ، وقد ذهب العديد من النقاد المعاصرين إلى هذه القناعة ، فالدكتور شوقي ضيف في ( الفن ومذاهبه ...) ينقل عن (جويدي) قوله : " إن قصائد القرن السادس الميلادي جديرة بالإعجاب ، وتـُنبئ بأنها صناعة طويلة ...من كثرة القواعد والأصول في لغتها ونحوها وتراكيبها وأوزانها ..." (11) ،وكذلك الدكتور نوري القيسي يرى أنّ القصائد التي بين أيدينا تامة ، وتكاد تكون متكاملة إلى حد بعيد ، لأنّ تقاليدها الفنية معقدة ،وصياغتها محكمة , ومعانيها تدل على الجودة ...أما الأوزان والقوافي ... تـُنبئ عن مرحلة ناضجة... (12) , والدكتور التونجي في (دراساته في الشعر الجاهلي) يرمي إلى أعماقه ما رمينا بقوله : "نعتبر الشعر الجاهلي ، ليس وليد مئتي سنة قبل الهجرة ، ولا ألف سنة أيضاً بل إنه قديم جدّاً " (13) ، ويدعم رأيه بما سجله الدكتور عمر فروخ أنَّ الشعر الذي وصل إلينا : " من الجاهلية يمثل دوراً راقياً ، لا يمكن أن يكون قد بلغ إليه في أقل من ألفي سنة على الأقل . (14) ولعل شعرنا (السامي ) انبثق مع بزوغ أشعار الأمم المجاورة كـملاحم (إلياذة) و (أوذيسة ) هوميروس في القرن الثامن قبل الميلاد ، أو (رامايانا) فاليمكي الهندي في القرن الثالث قبل الميلاد ، ولكنه انقرض مع العرب البائدة ، كما نوّه الدكتور التونجي في كتابه الآنف الذكر ، ومع هذا كلـّه ، لا ننفي أنّ شعرالجاهليين شعر أهل البادية - كما ذهب الجمحي - مهما اختلفت أدواق مناطقهم , وخوالج نفسيات شعرائهم , كان أفقهم محدوداً بخيال واقعهم الخصب , وتجارب حياة بيئتهم البدوية من صحراء قاسية ساكنة - وأحياناً رياح عاتية وخيام واهية - , وليل بهيم ونوق وظعن وبرق ومطر ورحيل , وأطلال وحيوانات برية , وبساطة العيش وسذاجة التفكير بين الحياة والموت والغارات والحروب ... ربما لهذا السبب أيضاً ضجر شعراء المعلقات من ( هل غادر...) و (ما أرانا نقول إلا مُعارا أو مُعاداً... ) ، و يدلي الدكتور شوقي ضيف بحكم ٍ قاس ٍ على الشعر الجاهلي من حيث هشاشة وحدته العضوية ، بل يعتبره مفككاً تماماً بقوله : " تألفت القصيدة الجاهلية من أبيات متجاورة متناثرة كأبيات الحيّ وخيامه ، فكل بيت له حياته و استقلاله ، وكل بيت وحدة قائمة بنفسها ، و قلما ظهرت صلة وثيقة بين بيت سابق و لاحق ، وبذلك فقدت تلك القصيدة وحدتها لا من حيث الموضوعات المتباينة التي تنتظم فيها فحسب ، بل أيضا من حيث الأبيات في الموضوع الواحد ، فهي تتجاور مستقلا بعضها عن بعض " (15) ينسى دكتورنا أنّ البادئ هو المبدع ، ومن يليه يقلـّده ، والأصل للإبداع مهما تفنـّن المقلد والمجدد ، وإذا كان هنالك بعض المحاكاة في بنائه ومضمونه ، فيعود للمنزلة الرفيعة التى بلغها عقبى الطفرة الفنية والإبداعية الجاهلية ! والأمر على العموم لا يأخذ بعمومياته ، وإنما هنالك خصوصيات يجسدها شاعر مبدع ، وإن قدم به العهد ، حسب بيئته وظروف معيشته ، ولحظة إبداعه ، فمثلاً يقول الجرجاني في ( وساطته) : إنّ سلامة اللفظ تتبع سلامة الطبع ، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخلقة , فأنت تجد ذلك ظاهراً في أهل عصرك ، وأبناء زمانك ، وترى الجافي الجلف منهم كزّالألفاظ , معقد الكلام ، وعر الخظاب ، حتى إنك ربما وجدت الفظاظة في صوته ونغمته ، وفي جرسه ولهجته ، ومن شأن البدواة أن تحدث بعض ذلك ، ومن أجله قال النبي (ص) : " مَن بدا جفا " ، لذلك تجد شعر عدي بن زيد وهو جاهلي أسلس من شعر الفرزدق ورجز رؤبة وهما إسلاميان ، لملازمة عدي الحاضرة وإيطانه الريف وبعده عن جلافة البدو , وجفاء الأعراب (16) . والشعر الجاهلي ليس كلـّه مفككاً , وإنما هنالك ترابط في العديد من مقطوعات قصائده , ثمّ أنّ كلَّ قوم بما لديهم فرحون ، حسب مكانهم وزمانهم وبيئتهم ، يقول عبد الكريم بن ابراهيم النهشلي أستاذ ابن رشيق القيرواني : " وقد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد، فيحسن في وقت ما لا يحسن في آخر، ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن عند أهل غيره، ونجد الشعراء الحذاق تقابل كل زمان بما استجيد فيه وكثر استعماله عند أهله ..." (17)
بعض القفزات غير المألوفة في الشعر الجاهلي :
وقد يجد الباحث بين دواوين الشعر الجاهلي قفزات تخترق الرتابة من حيث الدعابة المفقودة ، والخروج عن التقاليد المألوفة ، فالشاعر ربيعة بن مقروم الضبي (مخضرم جاهلي أدرك الإسلام) ، و الذي روى عنه الأنباري و أبو فرج أنه قال قصيدة يمدح فيها مسعود بن سالم بن عامر و كان ربيعة قد أسر و استيق ماله ، فخلصه مسعود ، فبدأ شعره بالنسيب ، ثم صار إلى صفة الناقة، و أجاد التخلص ليصل إلى المديح التقليدي ، وفي الختام يدعو لصاحبه أن يكون قرير العين محسودا ، وهذا الدعاء غريب في عصر رتيب !! :
هذا ثنائي بما أوليتَ من حسنٍ ***لا زلتَ عُوضُ قريرَ العين محسودا (18)
وقد يبدأ الشاعر بالغزل في قصائد الرثاء ، وهذا من غرائب الشعر كما في مرثية المرقش الأكبر(ربيعة بن سعد بن مالك) في ابن عمه ثعلبة بن عوف الذي قتلته بنو تغلب ( المهلهل ) ، يقول المرقش في ذلك (السريع) :
هل بالديار أن تجيب صممْ ***لو كان رسمّ ناطقـا كلّمْ
19) ) الدار قفر والرسوم كمـــــا***رقش في ظهر الأديم قلم
فيبدأ بسبعة أبيات غزلية ، ومن البيت الثاني جاء لقبه ( رقش بمعنى الزين أو الحسن) ، يقف فيها على ديار محبوبته أسماء بنت عوف ، ثم يتحول من البيت السابع لموضوع الرثاء فيقول :
لم يشج قلبي ملحوادث إلا *** صاحبي المتروك في تغلم
أي لم يحزن قلبي من الحوادث غير المتروك في موقع (تغلم) ، ومرقشه الأصغر ، ونعني به ابن أخ السابق ، وعم طرفة ، واسم الأصغر: (ربيعة بن سفيان بن سعد بن مالك) ، وهو أشعر من الأول ، وأطول عمراً ، فهذا جمع الضدين من أغراض الشعرالمختلفة في قصيدة واحدة ، من نسيبه لمعشوقته , و تشبيهه لرضابها بخمرته , وطروق خيالها بخياله إلى حكمة تجاربه ، وآراء فلسفته ، وهذاغريب في العصر البعيد ، إليك من مطلعها وواسطتها وختامها :
لابنة عجلان بالجو رسوم *** لم يتعفين والعهد قديم
من لخيال تسدى موهناً***أشعرني الهم فالقلب سقيم
كم من أخي ثروة رأيته *** حلّ على ماله دهر غشوم
الشعر الجاهلي بين قيوده وانتحاله :
وعموماً الشعريتقبل حرية الفكر بإمتنان ، بل يحث عليها بقوة العقل الإنساني و سعة خياله ، لأجل الإبداع ، حاله حال النثر ، فعمقه وتفتحته مشاع لكل الإنسانية ، أمّا محاولات تغييرنمط اللفظ بحركاته ، وهو كساء المعاني انتبه إليه الأخفش الأوسط ( ت 215 هـ) منذ بدايات القرن الثالث الهجري في القوافي ، اقرأ معي ما يقول في (قوافيه) : " أما إذا أرادوا الحداء و الغناء و الترنـّم ، فإن كلهم يتبع الروي المضموم واوا ، و المفتوح ألفا , و المكسور ياء . و الساكن إذا كان مطلقا ياء في الوقف والوصل ، فيما ينوّن منه و ما لا ينوًن..." (20) ، ففي مجال القوافي - وحتى الوزن - يمكن تجديد الرتابة في حدود ما تسمح به القيود الفنية ، يسهب الأستاذان الدكتوران خفاجي وشرف في (نغمهما الشعري ..) عند التطرق للمعلقات والقصيدة الجاهلية العمودية الأصيلة " وهي قصيدة ملتزمة مقيدة ، والفن هو الفن لابد من القيود ، والمثل الفرنسي يقول :لا يحيا الفن بدون قيود ، فمن خلال القيود الفنية تظهر عبقرية الشاعر وموهبته الأصيلة ، وفطرته الفنية المتميزة ، والحرية في الفن هي استعمال الفنان الموهوب لأقصى عبقريته من خلال تلك القيود . وكان نيتشيه يعرف الفن بأنه اللعب بمهارة بين كل القيود ...) (21)
وأخيراً يجب أنْ ننوّه أنّ الشعر الجاهلي لم يُدوَّن ، وتاريخه الأدبي لم يُكتب - على أغلب الظن - , وما المعلقات سوى أروع القصائد العربية التي توارثها العرب من العصر الجاهلي , وتعلقت في عقول وأذهان وقلوب الرواة ، ولم ينحلها حماد الراوية ، ولا خلف الأحمر كما ينسب إليهما أو لهما ، ولم تعلق على الكعبة , فالحموي في (معجم أدبائه ) ينفي كتابة المعلقات ، وتعليقها على أستار الكعبة بقوله :" ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة " (22) ، ومثله ذهب أبو جعفر النحاس في (شرح القصائد التسع) إلى قوله : "فأما قول من قال إنها علقت في الكعبة فلا سعرفه أحد من الرواة .." (23) ومن المعاصرين نفى التعليق بطرس البستاني ، والرافعي , والدكتور طه حسين نفى التعليق والمعلقات أصلاً ، ثم تراجع واعترف بوجودها بعد أنْ أثار ضجة كبيرة في بداية عهده ، ومن المستشرقين بوكوك الأنكليزي أقدمهم (ت 1691م), وتيودورنولدكه الألماني ، ويعللون الأمر لعدة أسباب , منها أنّ الكتابة لم تكن مألوفة ، وإنما نقلت إلى العرب عن طريق الرواة كما ذكرنا -والرواة ينسون ويتناسون ، وينحلون ويغيّرون , فوصلت إلينا غير متطابقة تماماً ، ووصفت بأسماء أخرى في عهود مختلفة كالسبع الطوال والمذهبات والسموط ...إلخ ، ويعتبر محمد بن سلام الجمحي ( 139 هـ - 231 هـ / 757 م ـ 845 م) من المدققين المشتهرين بسعة العلم وصدق الرواية ، وهو أول من صنف الشعراء بشكل منهجي في كتابه ( طبقات فحول الشعراء) (25) ، إذ ركن إلى المقاييس العلمية في تقسيم جاهلييهم وإسلامييهم إلى طبقات , وأول من انتبه إلى خطورة ظاهرة الانتحال في الشعر ، حيث لاحظ أن بعض الشعر الجاهلي الذي يتناقله الرواة منحول ، ولم يطلق كلمة معلقة على أي قصيدة منها ، بينما ابن خلدون يؤكد على تعليقها للتباهي (المناغاة) بقوله في (مقدمته) " ...حتى انتهوا إلى المناغاة في تعليق أشعارهم بأركان البيت الحرام .." (24) ، والسيوطي ينقل عن معاوية بن أبي سفيان فخره بقصيدتي ابن كلثوم والحارث ، وكانتا معلقتين ، وجرجي زيدان في (تاريخ آدابه) يتحمس لتعليقها ، ويفند رأي النحاس ، وهنالك من يشير إلى أن بعض العرب كانوا يعرفون الكتابة ، ويستشهد بقول الأرقش الأكبر " رقش في ظهر الأديم قلم " ، بل يذهب صاحب (الأغاني ) ، إلى أنه وأخاه حرملة تعلما الكتابه والخط في الحيرة على يد نصراني (25) ، ولا نستبعد قد تعلـّم الكتابة والقراءة أفراد قلائل وبشكل بدائي لا يرقى إلى أدنى مستوى التدوين ، وكان يسدُّ الثغرات الرواة ، وإلا كيف كـُتب الوحي ، وقـُرأ القرآن ، وبُعثتْ الرسائل في صدر الإسلام ، ونحن أبدينا رأينا حول استبعاد التعليق كتابة ، لأنها وصلت إلينا غير متطابقة ، وبعدة روايات ، والكعبة شبّ فيها الحريق وهُدّمتْ ، وحمل النبي (ص) الحجر الأسود ، فأين التعليق من حماد...!! والجمحي لم يذكر أي كلمة (معلقة) في (طبقات فحوله) ، وهو الفحل الأول في الشعر الأفضل من الزمن الأول ... !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(أ) مرّت علينا عشرون حلقة من الشعر وقضاياه وعلمي العروض والقوافي . وهذه الحلقة رقم - 21 - .