هناك الكثير من المؤلفات التي تنتقد العقل العربي والتي تحاول تشخيص أمراضه ووضع يدها على مواطن الضعف في طرائق تفكيره ومناحي سيره والتي تلعب دون شك الدور الرئيس في تخلف الأمـة العـربية عن باقي الأمم، وقد حاول عـلـمـاء الإجـتـمـاع أن يلفتوا الأنظار إلى تلك الأمراض آملين في أن وضعها تحت دائرة الضوء سيقودنا إلى إدراك وجودها وبالتالي محاولة التخلص منها.
ثـمـة مـيـل واضح لـدى الكثير من الـعـرب إلى إحالة ما يواجهونه من إشكالات لها جذور وأسباب في واقع الحياة المحسوس إلى الغيبيات.. فالظواهر الطبيعية "انتقام من الله" سبحانه وتعالى، والمرض "عـين فتاكة" أصابت المريض، والمشاكل الزوجية "سحر"، والفشل في الامتحان "عـين قوية" أصابت صاحبها، أما السرطان فقد احتار الأطباء في أسبابه ولم يجدوا له تفسيراً ...وهنا لابد أن تشهر "ورقة العين" المسؤولة دائماً وأبداً عن كل آفة أو بلاء يصيبنا.
والكارثة أن هذه التفسيرات لا تنطلق فقط من أفواه العامة أو غير المتعلمين بل يشدو بها كثير من المتعلمين الذين درسوا تخصصات علمية دقيقة ، ويستخدمون في أعمالهم تقنيات عالية تعتبر ثمرة من ثمار إبداعات العقـل الإنساني ويتمتعون في منازلهم بأحدث ما أنتجته الحضارة الإنسانية من وسائل الراحة والرفاهية... وهنا لابد أن نندهش من هذه الازدواجية التي يغـرقون في غياهـبها ، فهم يستخدمون العلم الحديث ووسائله العالية التقنية من جهة في تفاصيل حياتهم ثم يرفضون إحالة الإشكالات التي تواجههم إلى المنهج العلمي من جهة أخرى ، مؤثرين إحالة أسبابها إلى عالم المجهول.
ولا تستغرب لو أرجع أحد الأطباء الـعـرب الحاذقـين سبب مرض السرطان إلى "العين الحاسدة" أو شخّص حالة اكتئاب تفاعلي على أنه "نتيجة لأعمال سحر وشعوذة"... ولا تستغرب أيضاً لو وجدت مجموعة من المعلمات المتنورات يتناقشن في مشكلة زميلة لهن تعاني من إعراض زوجها عـنها ونفوره منها وهن يتهامسن فيما بينهن أن سبب ذلك النفور هو "عمل قامت به الخادمة الحاقدة " أو إحدى "الحاسدات من القريبات". ولا تستغرب أيضاً حين تلاحقك أنت نفسك أمراض الثقافة المحيطة بك فتنجرف معها وتتوجس خيفة من "عين حاسدة" أو قلب مريض، ناسياً محاولاتك الممضة لحقن وعـيك بـقـناعاتك الجديدة التي ترفض التماهي مع الخرافات، فقد شـقـَّـت تلك الترهات طريقها إلى لا وعـيك ، وغرست نفسها فيه وأصبح من الصعوبة بمكان إخراجها من مكان استقرت فيه طويلاً. ولا تستغرب أيضاً لو كان سبب فتور العلاقة بينك وبين رئيسك وتـقـريـعـه الدائم لك هو "عـين حاسدة" أصابتك بقوة تأثيرها... لذلك ليس ثـمـة مبرر لأن تبحث عن الأسباب الحقيقية وراء فشلك أو عـدم قـدرتك على إنجاز عمل ما ، أو مرضك ، أو موت الآلاف من الضـحـايا في الزلزال المـدمـر الذي ضـرب إيران في الأسبوع الماضي، فالأسباب كلها معروفة ومن الممكن استخلاصها من ذلك العالم المجهول : عالم الغيبيات...
وهذه هي الطريقة الأسهل التي من الممكن إحالة كل مشاكلنا عليها من غير أن نتكلف عناء البحث والتقصي، والتي تمنحـنا الحلول والإجابات لكل الإشكالات المستعـصية في حياتنا.
ولو توسـَّمت في نفسك الشجاعة ، وكانت لـديك الـجـرأة للـتـعـبير عـن رأيك محرضاً عقول من حولك على البحث عن المسببات الحقيقية وراء مشكلاتنا ، وبالتالي محاولة إيجاد الحلول الناجعة لها ، فلا بد أن تتهم في إيمانك المتزعـزع ويقـينك المهتز... وكأن الإيمان يتصارع مع العلم ويتعارض مع البحث عن أسباب مشاكلنا في ثنايا عالم الشهادة...
حـاول ـ على سبيل المـثـال ـ أن تناقش وتقول إن سبب مشكلة قريبك مع أخيه يرجع إلى خلل في العلاقات الاجتماعية ، أو أن زميلك طلق زوجته لأن المشكلة لها أبعاد ضاربة في جذور علاقتهما، أو أن سبب كثرة ضحايا الزلازل في الدول النامية هي عـدم وجود الاستعدادات اللازمة عند حدوث هذه الحالات ، أو الآليات المحذرة من إمكانية حدوث كارثة طبيعية، لتكال لك التهم وتتقاذف عليك ذات اليمين وذات اليسار، فتبتلع كلماتك في جوفـك مؤثراً السلامة ومتجـنباً الصدام والجدل العقيم في أمور لن تحصد من ورائها إلا العـداء الشخصي أو الاتهامات في دينك وعقيدتك ، وذلك على الرغم من أن الإسلام شدَّد على أهمية التفكر والتدبر والنظر في سـُنن الله في الآفاق ومحاولة الاستفادة من التراكم المعرفي من الحضارات السابقة ، ومن تعاليمه تشكلت أساسيات المنهج العلمي التجريبي الذي أسلمنا رايته لغيرنا ورحنا نغط في سـبات عميق يـحـسـدنا عـليـه أهـل الـكـهـف ، تظللنا تهويمات الخرافات والدجل والسحر والشعوذة.
دارت في ذهـني هذه الأفكار وأنا أقرأ تـقـريرا في صحيفة " الشرق الأوسط " السـعـودية الصـادرة في لـنـدن يـفـيد بأن المصريين ينفـقـون 10 بلايين جنيه سنوياً على الدجالين، وأن هناك 300 ألف دجال في مصر...(ليس خطـا مـطبـعـيـا...300 ألف دجـَّال..!!) ... ويـشـير الـتـقـرير إلى أن المتعلمين في مقدمة المترددين على هؤلاء الدجالين . وبـعـمـليـة حسـابية بسيطة يتبين لـنا أن هـناك دجالاً لكل 265 مواطناً،... وأكثر الخـرافـات التي تتحكم في عـقـول المصريين مشكلة تأخير سن الزواج ، وعدم القدرة على الإنجاب ، والمشكلات الجنسية المعـقـدة ، إضافة إلى الأمراض المستعـصية، كما أن 38% في المائة من مشاهير الفن والسياسة والرياضة والمثقفين هم من رواد السحرة والدجالين.
قبل أكثر من ستين عـامـا حـاول الفيلسوف المصري الدكتور زكي نجيب محمود "تشـخيص" مشكلات العقـل العربي ... ولكنه كان "يـنفخ في قربة مخرومة" ـ كما يـقـول السـوريون ـ ذلك أن المشـكلات التي حاولت تشخيصها ما زالت تراوح مكانها ، بل يمكن القول إنها زادت استفحالاً واستشراساً في الوقت الحالي ، فطرائق التفكير واحدة وبالتالي المشكلات واحدة.
هل هناك وجود للعقل العربي؟! أم أننا شيعناه ودفناه وأهلنا عليه التراب منذ أن استسلمنا للدعة والخمول ، وآثرنا الغرق في لجة التخلف...؟!
مقالات اخرى للكاتب