عاش الإنسان القديم ردحا من الزمن نمط حياة مشابها لحيوانات البراري، ليس في إتباعه قانون الغاب ولا في كون غرائزه هي القائدة لتصرفاته أو لافتقاره للقوانين وغير ذلك مما يعتبره عالم اليوم (المتحضر) بعيدا عن الإنسانية وحضارتها. بل في اعتماده نمطا غذائيا نباتيا أساسه الحبوب والثمار و الأعشاب وأحيانا اللحوم النيئة دون طبخ أو شي، لذا كان إكتشافه النار التي تقول الأسطورة اليونانية أن الإله بروميثيوس أهداها للبشر، خطوة عظيمة نحو المدنية و بناء الحضارة.
بعدما شوى على ألسنتها اللحم و اللبن و الفخار، واستضاء و ردع الاعداء، سيما بعدما خبر غضبها المريع جعل الانسان النار موضع التقدير والتعظيم و ربما كانت أول مقدس في حياته، فيما بعد تكرست صورة أكثر وضوحا عن تقديس النار لدى ديانات أخرى كالزراداشتية التي تعدها رمزا للحضور النوراني للإله الواحد، ولها رمزية أخرى لدى الديانات السماوية فإليها سيؤول مصير صناع الشر ليكونوا وقودها وحطب جمراتها المستعرة يوم القيامة.
نقرأ في التاريخ عن استخدام النار لإرسال رسائل معينة ونقل الأخبار السعيدة منها والحزينة، إذ كانت القلاع تتوزع على طرق القوافل وتنتقل الأخبار عبرها إلى الأصقاع البعيدة عندما يتوالى إيقاد النار من قلعة إلى أخرى كما حصل عندما اكتشفت الملكة هيلانة خشبة الصليب المقدس. ومنها ايضا طارت رسائل الدخان المشفرة التي يرسلها الهنود الحمر، ومن النار ينبعث الدخان الأبيض مع اختيار بابا جديد فيما الأسود يدل على العكس. الضائعون والتائهون في المناطق النائية لهم رسائلهم النارية أيضا عندما تسقط طائراتهم أو تغرق بواخرهم فيوقدون النار جلبا للانتباه واستدعاءً لفرق النجاة.
لكن رسائل النار تطورت عبر الأزمان وبات بعضها شديد اللهجة وبعيد المرمى، فعندما اندلع حريق لندن الهائل عام 1666 وأتى على جزء كبير منها فهم البعض أنه ليس إلا رسالة من السماء وعقابا إلهيا لأهلها المنغمسين في شهواتهم وملذاتهم، وما ظنه الناس رسالة لتطهير النفوس طهر البلاد من الطاعون (ورب ضارة نافعة).
وقبله أحرق نيرون روما و وقف مأخوذا بالمنظر يعزف على آلة الطرب، فكانت رسالة النار هذه المرة إلى كل الطغاة أن سقوطهم قادم لا محالة، لان استبداده وبذخه والإفلاس والحروب الداخلية والخارجية كانت كلها أسبابا لتصاعد الثورة وانقلاب حلفائه عليه وسقوطه حتى قضى منتحرا.
من أشهر الحرائق عبر التاريخ حريق سان فرانسيسكو وحريق طوكيو وحريق القاهرة الذي اندلع في 26/1/1952 وأكلت خلاله النيران عددا غير يسير من المحلات والفنادق والسينمات فضلا عن الخسائر البشرية ورغم مرور كل هذه السنوات ما زال الفاعل مجهولا مع تأكيد المصادر على أن الحادث كان مدبراً وأن من نفذه كان على مستوى عالٍ من التدريب والمهارة، وسواء كان الملك فاروق هو الفاعل أم سلطات الاحتلال البريطاني أم جماعة الاخوان المسلمين فقد كان الحريق من مقدمات إسقاط الملكية، وقيام الثورة المصرية وحمل هو الآخر رسالة مشفرة ربما لو فهمها الملك لتجنب الاطاحة به صبيحة 23/7 من ذات العام فيما نجح من فهمها في قلب مسار الأحداث لصالحه. عندما تكرر السيناريو ذاته قبل مدة يسيرة مع إحراق جامع رابعة العدوية و كثير من المنشآت والممتلكات الخاصة والعامة ومقرات الاحزاب وأقسام الشرطة، حتى بيوت الله لم تسلم إذ طالت السنة اللهب أكثر من أربعين كنيسة، بعض أصابع الاتهام أشارت الى جماعة عُهد فيها إتباع سياسة الأرض المحترقة، وربما أرادت أن توجه للشعب وجيشه رسالة مفادها (لو ألعب...لو أحرق الملعب)، لكن الجيش كان لها بالمرصاد.
عندما كررت النار فعلتها في حرائق آبار النفط بالكويت، كان الفاعل معلوما ورسالته واضحة، رغم تكلفتها الباهظة التي دفعها العراقيون من ثروات بلادهم وأرواح شبابهم ومازالوا، لكن حرائق كثيرة اندلعت وتندلع في مؤسسات حكومية بالغة الاهمية وتستهدف طوابق بعينها وغرفا بذاتها والفاعل مازال مجهولا، وإن كان التماس الكهربائي هو المتهم الأول والإهمال ثانيا والإرهاب ثالثا والقائمة تطول مع حرائق لا تخلو من رسائل، من أرسلها؟ لمن؟ من يفك شفرتها؟ وهل ستكون باهظة التكلفة أم بخسة؟ وفي كل الاحوال ألا يدفع الشعب فاتورتها؟
مقالات اخرى للكاتب