أن تكتب مقالة يومية في أوسع الجرائد انتشارا فتلك مسؤولية دونها خرط القتاد. غير أن هذه المسؤولية قد لا تُعد شيئا ذا بال إزاء تلقّيك رسائل شبه يومية على بريدك من قرّاء حسني الظن، قراء يتوهمون أن مجرد الإشارة لمشكل من مشاكلهم قد يعني سرعة حلها من قبل المؤسسات المعنية، وهذا أبعد ما يكون عن الواقع. أقول ذلك معتمدا على تجربتي الشخصية في الكتابة عن الناس، فصاحبكم، منذ سنوات، ما كان قد ترك زواية ولا "زاغورا" إلا وحشر أنفه فيه، ابتداءً من هموم الفقراء مرورا بالمشاكل الخدمية المزمنة التي نعانيها وانتهاءً بالسياسة. مع هذا فإنه لم يحدث أن انتبهت دائرة لما أكتب أو حرّكت ملفا أطرقه. لهذا السبب بالذات، كنت كتبت ذات يوم مقالة تخيّلت نفسي فيها "عرضحالجي" من فرط ما تعرضت للإحراج بهذا الشأن. في المناسبات الاجتماعية مثلا، لا يكاد بعضهم يعرف أنني صحفي حتى يمطرني بمشكلاته مبتدئا بالعبارة: يا أخي أنتم الصحفيين شبيكم ساكتين ما تكتبون علينا، أكتبوا على الكهرباء، على الازدحامات، مو ملينه من الكلام. في تلك اللحطة، تجدني أسمع عبارتهم مبتسما واعدا إياهم بالكتابة عن تلك الشجون، حتى إذ صادفنوني بعد فترة عادوا ليماحكوا ـ ها يابه.. أشو لا بو علي ولا مسحاته!
نعم، هذا هو شأن الكتاب دائما. لا أحد يسمعهم ولا مؤسسة تقرأ ما يكتبون إلّا من رحم ربي، ومن ضمن هؤلاء وزارة التعليم العالي التي قرأت، ذات يوم في العام 2009، واحدة من مقالاتي المتواضعة وسارعت للتحقيق في معطياتها وكانت النتيجة أن أعيد مقعد دراسي لطالبة ماجستير بعد أن اغتصب منها. كنت يومها قد سمعت قصة مثيرة للانتباه من رئيس قسم في إحدى الكليات يطول شرحها وخلاصتها "سرقة مقعد ماجستير من إحداهن وإعطاؤه لأخرى". رئيس القسم المذكور كان شجاعا لذا رفض التلاعب والمصادقة على التغيير المجحف، وكاد أن يُفصل من وظيفته بسبب موقفه ذاك. استأذنت منه الكتابة عن الأمر فأذن لي وقال - لن أخشى حتى لو ذكرت اسمي. وبالفعل، بعد أيام، كتبت الحكاية مع ذكر اسم ذلك الأستاذ، ثم ما هي إلّا أسابيع حتى تلفن لي وقال - عاشت ايدك، لقد جاءت لجنة تحقيق هذا اليوم لمكتبي وأخذوا إفادتي وكانت مقالتك من بين أوراق القضية المثارة. ثم بعد مدة تمت تسوية الموضوع وأعيد المقعد للفتاة.
الحق أنني تذكرت هذه الحادثة اليوم وأنا أطالع بريدي الألكتروني. كانت ثمة رسالة ملتاعة من طالبة تشعر بظلم كبير من نتائج القبول المركزي التي أعلنت مؤخرا. فهي، مع عدد من زميلاتها، حازت معدلا يتجاوز الـ ٩٤، ومع هذا فوجئت باستبعادها من المجموعة الطبية لتقبل في معهد أو شيء من هذا القبيل. تقول أيضا أن الحاصلين على هذا المعدل، أي الـ 94، قبلوا في الكليات الطبية بينما لا تتجاوز معدلات الكلية التي قبلتها الـ 87 ، فهل رأيتم شيئا أعجب من هذا!
أعرف أن الأمر ليس من اختصاصي ولعل لجهاز القبول المركزي معايير ونظم لا أفقه منها شيئا. لكن أن يستبعد طالب حاصل على معدل 94 من الطبية لـ"يشمر" في التكنلوجية أو حتى الهندسة، فهذا مما يطير منه الجنان ويشيب بسببه الولدان. ولكم أن تتخيلوا مقدار الظلم الواقع على أولئك الفتيات والنار التي تتقد الآن في قلوبهن.
نعم، هي واحدة من مآزقنا نحن الكتاب. ترانا نتلقى الرسائل فنكتب عن بعض شجونها، ثم يمضي الأمر فكأننا ما كتبنا وكأنهم ما قرأوا. وهنا ترانا نسكت خجلين بينما صدى المثل القديم يرنّ في رؤوسنا: من يقره من يكتب! عسى أن يقرأوا هذه المرة.
مقالات اخرى للكاتب