انحسار الدورين التركي والايراني في المنطقة
لقد كانت اتفاقية سايكس بيكو مفصلا مهما تغيرت بموجبها وجه منطقة الشرق الاوسط وتشكلت بناء عليها دول جديدة على انقاض الامبراطورية العثمانية التي كانت تضم تلك الدول . تقسمت المنطقة على اساسها بين النفوذين البريطاني والفرنسي , لتدخل امريكا بعد ذلك كقوة فرضت نفسها على الساحة الدولية , واستطاعت ازاحة النفوذين البريطاني والفرنسي عبر انقلابات عسكرية شهدتها الدول العربية انذاك , هيمنت من خلالها على دول المنطقة , تاركة بعض الجيوب هنا وهناك للنفوذ الاوروبي . اما الاتحاد السوفيتي ( التي تمثلها روسيا حاليا ) فقد اكتفت بالتقاط الدول التي خرجت من الفلك الامريكي مثل سوريا , واخرى كانت تخرج بين فترة واخرى من هذا الفلك مثل ليبيا والعراق واحيانا مصر . وبمقارنة بين ما يحصل اليوم في المنطقة العربية ( في سوريا والعراق) وبين ما حصل حينها , سندرك باننا امام منعطف تاريخي اخر يوذن بولادة دول جديدة تتشكل من خلالها مناطق نفوذ جديدة , خاصة بعد التدخل الروسي مؤخرا في الازمة السورية بشكل مباشر .
منذ بداية الثورة السورية وهناك ثلاثة مستويات مختلفة التوجهات والقوة اثرت عليها بشكل مباشر , فالطرف الاكثر تاثيرا في الازمة السورية كانت وماتزال امريكا , ثم الدول الاوروبية وروسيا على المستوى الثاني , وتاتي في المستوى الثالث دول الخليج وتركيا وايران كدول اقليمية مؤثرة على الوضع السوري , واخيرا الاطراف المتصارعة على الارض والتي تقاتل بعضها لاسباب عديدة دون ان تمتلك القدرة على حسم هذا القتال لصالح جهة منها , وهي تمثل الحلقة الاضعف سواء كان النظام السوري والمليشيات التي تدعمه , او المعارضة السورية المسلحة بتوجهاتها المختلفة , او الجماعات الارهابية التي تقاتل لاهداف مشبوهة غير معروفة .
ورغم ان الدول الاقليمية في المعسكرين لعبت ادوارا مهمة طول سنوات الازمة السورية , الا ان دورها في الفترة الاخيرة بدأ بالخفوت , خصوصا بعد التدخل الروسي المباشر , فقد حيد التاثير الخليجي , واضعف الدور التركي بعد حادثة اسقاط الطائرة الروسية التي جعل من الدور التركي دورا هامشيا سيقتصر على اضفاء اللمسات الاخيرة لما تقرره امريكا والدول الاوروبية ذات الدور الابرز . اما الدور الايراني فقد تحول الى دور ملازم للمواقف السياسية الروسية , والوضع الميداني للمليشيات الشيعية التابعة لها .
تدرك امريكا ومعها الغرب بان روسيا ليست مستعدة للتخلى عن نفوذها في سوريا بعد اسقاط بشار , وهي عازمة على الاحتفاظ بموطيء قدم لها في البحر المتوسط , فدخولها المباشر مؤخرا اثبت بان اهمية سوريا بالنسبة لها لا تقل عن اهمية اوكرانيا... ليس هذا فحسب بل يبدو انها تطمح الان لضمان موطيء قدم لها في مياه الخليج جنوب العراق مقابل النفوذ الامريكي في الطرف الاخر من الخليج , مستفيدة من النفوذ الايراني الموجود في العراق .
من المؤكد ان تقاطع الطموح الروسي مع اجندات امريكا واوروبا في العراق وسوريا سيؤدي في النهاية الى تقاسم مناطق النفوذ الى دويلات صغيرة تتشطى من هاتين الدولتين .. اعتمادا على مبدا الربح والخسارة التي تستند اليها الدول الكبرى . فالمناطق السنية والكوردية في العراق وسوريا تعتبر مناطق نفوذ مضمونة للطرف الامريكي , بينما تحاول روسيا ضمان نفوذ لها في المناطق العلوية والشيعية فيهما .
ان ما يقف عائقا امام هكذا توزيع (تلقائي ) في النفوذ بين امريكا وروسيا هي الدول الاقليمية المؤثرة ... فتركيا ودول الخليج وايران تمثل الان عوامل (مزعجة) لاي توزيع تلقائي غير معلن بين
الدول الكبرى , الا ان التطورات الاخيرة و اللقاءات التي حصلت بين فرنسا وروسيا تنبيء بملامح مرحلة جديدة وبوصولنا الى المشاهد الاخيرة لهذه الازمة .
فالتاثير التركي اصبح مهمشا الى حد كبير بعد فشلها في تشكيل فصائل سورية مسلحة مؤثرة في واقع الثورة السورية , وفشلها في اقناع حلفائها الغربيين انشاء منطقة عازلة داخل الاراضي السورية , اضافة الى التوقيتات الخاطئة لسياساتها حيال الوضع السوري منذ بداية الثورة هناك , واخيرا تدهور علاقاتها مع روسيا بعد اسقاطها للطائرة الروسية , كل ذلك سيؤدي الى انحسار الدور التركي واقتصاره على التركيز في الملف الكوردي السوري لمنع قيام كيان كوردي هناك على غرار الكيان الكوردي القائم في العراق . وبالطبع فليس من الصعب على امريكا والغرب اقناع تركيا بالخروج من المعادلة السورية خاصة اذا اغرتها بالدخول الى الاتحاد الاوروبي بعد القضاء على تهديد داعش كما عرضت فرنسا عليها ذلك قبل ايام .
اما الدور الايراني في سوريا والعراق فسيستمر طالما بقيت داعش في المنطقة , الا انه تحول في الاونة الاخيرة الى مواقف ظل للتوجهات الروسية .. بعدما فشلت هي والمليشيات التابعة لها في القضاء على المعارضة السورية المسلحة , دون ان ننسى ان الاتفاقية النووية بينها وبين الدول الخمس حددت كثيرا من مرونتها وحرية الحركة التي كانت تتمتع بها سابقا , لذلك فهي تلجا الان الى دعم وتبني المواقف الروسية لتحقيق مكاسب سياسية لها اكثر من تبني مواقف خاصة بها .
ان العلاقة الروسية الايرانية هي علاقة متلازمة , تجعل من وجود أي طرف منهما في المنطقة مقترنا بوجود الاخر . الا ان الدور الايراني سينكفيء بمجرد القضاء على داعش في العراق وسوريا , وبدء المجتمع الدولي بتقليم اظافر المليشيات الشيعية التابعة لها , ولذلك فان ايران ستفتح المجال امام روسيا لتعزيز وجودها في الجنوب العراقي ( الشيعي) كي تخفف من الضغوطات الامريكية عليها وتعزز موقفها في منطقة الخليج بوجود الحليف الروسي . ولا نتصور ان وجودا روسيا كهذا في الجنوب العراقي سيواجه باعتراض امريكي , حيث ان تلك المنطقة لم تكن تمثل يوما منطقة تواجد امريكية , اضافة الى ان ما يهم امريكا من الجنوب العراقي هو الحفاظ على مصالحها الاقتصادية التي ستبقى قائمة حتى في ظل وجود روسي هناك .
ان الاشتباك السياسي بين القوى العظمى في سوريا ستشهد قريبا ولادة مناطق نفوذ لها داخل الدولة الواحدة لتتحول هذه المناطق بعد ذلك الى واقع حال يوجب التعامل معها ككيانات مستقلة بحد ذاتها , فلا يمكن لدولة تحوي مناطق نفوذ مختلفة التوجهات ان تبقى محافظة على وحدتها دون ان تتقسم , وما حدث في العراق منذ الالفين وثلاثة ولغاية يومنا كان سببه وحدة قسرية لثلاث مكونات كل مكون له توجه يختلف عن الاخر وتحالفات اقليمية ودولية مختلفة عن الاخر فكان الشعب العراقي هو الضحية الاولى لهذه الوحدة الفسرية .
مقالات اخرى للكاتب