كلما يوقفني شرطي أو جندي أو مسلح لا أعرف إنتماءه لجهة ما، أو فرداً من عصابة مافيا و((يأمرني)) -بكل قباحة- أن يترجل جميع العائلة من السيارة وأفتح صندوقها أمام ناظريه ماسكاً بين يديه جهازاً لا يجدي نفعاً تحدث الجميع عن كونه ضمن صفقة فاسدة بعشرات الملايين من الدولارات، وقد إصطف خلفي رتل طويل من السيارات يمتد لعشرات الأمتار وسط شوارع عامة وأحياء سكنية تحت ذريعة ((الحفاظ على الأمن)) الذي إنحرمنا منه، فإني أستذكر حادثاً عشته قبل (51) سنة من يومنا هذا.
شاء قدري أن أكون شاهد عيان لصراخ الشيخ "محمد رضا الشبيبي" بوجه ((الدكتاتور الطائفي!!!؟؟؟)) رئيس الجمهورية العراقية "المشير الركن عبدالسلام محمد عارف" داخل أروقة القصر الجمهوري مساء أحد أيام (ك1/ديسمبر1964) وقتما كنتُ الضابط الخافر الوحيد في غرفة تشريفاته وكل أروقته، حين أُخبِرتُ بإجتياز "الشيخ محمد رضا الشبيبي" بوابة القصر بسيارته الشخصية من دون أن يرضى التوقف لدقائق بغية الإستئذان بالدخول... ولما كان هذا "الشيخ العلاّمة" قد قرأنا عنه في مراحل دراستنا، وهو راية مبجلة من رايات العراق، فقد أسرعتُ إلى باب التشريفات لأستقبله مرحّباً بمَقدَمه بكل حرارة.
لكني فوجئت بعدم إكتراثه بي، فقد كان غاضباً إلى حدّ كانت يده اليمنى ترتجف بشكل ملحوظ، حتى صاح بوجهي بصوت عالٍ غير معتاد في أروقة القصر الجمهوري:-
-"أين الحجي"؟؟؟؟
إستغربتُ من تصرّف الشيخ العلامة، فقد كان معظم الذين يحضرون إلى "غرفة التشريفات" -وجلّهم من كبار مسؤولي الدولة وقادة القوات المسلحة والسفراء- يجاملوننا إلى درجة نخجل من أنفسنا حيالهم في بعض المرّات... ولما إلتزمت الصمت وبانَت الحيرة على مُحيّاي، صاح "الشبيبي" للمرة الثانية:-
-"قلت لك أين الحجي"؟؟؟!!!
أيقنت أن معضلة كبيرة قد جابهته... فرجوتُ منه التكرم بالدخول إلى غرفة التشريفات ريثما أدبر أمراً، فتوجّه نحوها متمتماً عبارات لم أعرف مقصده منها.
ومن الجانب الآخر فوجئتُ بالرئيس "عبدالسلام محمد عارف" مُسرعاً -على غير عادته- نحونا، وهو يرحب بصوت عالٍ لم نعتد عليه:-
* يا أهلاً، يا أهلاً، يا أهلاً بشيخنا العزيز.
- "لا أهلاً ولا مرحباً".
* خيراً إن شاء الله؟؟؟
- وهل نتوقـّع خيراً منكم يا حجي؟؟؟
* خيراً إن شاء الله... وأرجوك فقط أن توضح لي ما حدث؟
- يا حجّي، هذه المرة الثانية التي أحضر فيها إلى قصركم العامر ((قالها بإستهزاء)) وللسبب نفسه، فقبل سنة ونصف حضرتُ لأشكو لشخصك -أنت بالذات- تصرّف أشخاص أرادوا تفتيش سيارتي في شارع عام، وكان الوضع في العراق غير ما هو قائم الآن... واليوم يجابهني موقف مشابه بفضلكم ورعايتكم ما شاء الله ((قالها بإستهزاء مع هزّ الرأس واليدين))، فقد أوقفني بعض الشباب زاعمين أنهم أفراد أمن وإستخبارات، ولم يخجلوا حين طلبوا بكل وقاحة تفتيش سيارتي، رغم كون عائلتي وبناتي معي، وقد بلغتُ من العمر ما يَرَون... إن أقلَّ وصفٍ لمثل هذه الوقاحة -يا حجي- يمكن تسميته "سقوطاً أخلاقياً"... فأين الشرف؟ وأين القيم؟.
* صحيح ذلك، وأنتم الصادقون، فأنت على حق، وليس من حقّهم ذلك يا شيخنا.
وهنا، بدا الشيخ "الشبيبي" وكأنه قد هدأ بعض الشيء، فقبل أن يجلس على أحد مقاعد الغرقة، بينما ظلّ الرئيس "عبدالسلام عارف" واقفاً:-
* أودّ أن أُوضّح لك يا حجّي، إنك تدّعي تصحيح الأوضاع في البلد... ولكني أسألك:- ما الفرق بين شرطة "نوري السعيد وسعيد القزاز" -رحمة الله عليهما ألف مرة- وأفراد المقاومة الشعبية الشيوعية، وأجهزة أمن "عبدالكريم قاسم" و"الحرس القومي البعثي" وبين أفراد أمنك وإستخباراتك؟؟؟... أنا لا أتلمّس سوى التغيير في شخوص القائمين على الدولة؟
* لا يا شيخنا... أرجوك لا تتعدّى عليَنا.
* لا حول ولا قوة إلاّ بالله... بالله عليك يا "أبا أحمد".. هل تعدّ تنبيهك نحو سلبيات أو أخطاء إعتداءاً عليك؟؟!! أنت المسؤول يا أخي، أنت المسؤول عن هذه الأمور، ولابد من أن تضع حدّاً لها.. مواطن يسير بالشارع في أمان الله، وجماعة يظنون بأمره على هواهم، فيُوقفونَه ليفتّشوه من دون موجِب أو سبب ومن دون أمر قضائي كما ينص عليه دستوركم المبجل ((قالها بإستهزاء أكبر))... والله أنه الكفر بعينه... الله يرحمك يا نوري السعيد... الله يرحمك يا نوري باشا الذي لم نعرف قدرك... أين كنا وأين أصبحنا يا عالم يا ناس؟؟؟
* حسناً حسناً.. "إحسبها عليّ يا شيخنا".. فأنت أستاذنا و..
* طبعاً أحسبها عليك.. فأنت إن لم تكن المسؤول الأخير، فأنك المسؤول الأول.. ألم يَقُـلْ الخليفة "عمر":- ((لو عثرت بقرة في أرض العراق بصخرة فأنا مُحاسَب على ذلك))؟؟!!.... يا أخي قالها عن العراق في ذاك
الزمان الغابر وهو في دار الخلافة بالمدينة المنورة، بينما تقع هذه التصرفات في شوارع "بغداد" وأنت جالس في حكم "بغداد"... فكيف لا أحسبها عليك؟؟؟
* صحيح جداً ما تفضلتم به.. فسأحاسبهم شر حساب بعد أن أخرجهم من باطن الأرض وأصدر توجيهات محددة وقاسية في هذا الشأن... فأرجوك هدئ من روعك، وَصَلِّ على النبيّ وآلِه.. فلنَقُم الى الصلاة التي قال عنها الرسول (ص):-"أرِحْنا بها يا بِلال".. فقد قرب حلول الظلام.
* روح روح، فأنا لا أصلّي معك وأمثالك.
* قُمْ يا شيخ، وإستَعذْ بالله من الشيطان.. فمثل هذا (الزعل) لا يمكن أن يصدر من علاّمة وشيخ وأستاذ، ومن أحفاد سيدنا علي (كرم الله وجهه).. فنحن لا نعتبرك إلاّ معلّمنا وأستاذنا ومُربّينا... قُمْ يا شيخ، لتكن أنت الإمام، وأنا تابعك.
ردّد الشيخ "محمد رضا الشبيبي" عبارة "أستغفر الله العظيم، حسبي الله ونعم الوكيل" مرات عديدة، قبل أن يسبق شخص رئيس الجمهورية العراقية "المشير الركن عبدالسلام محمد عارف" لدى خروجهما من غرفة التشريفات نحو "الجناح الخاص لرئيس الجمهورية"، وأنا مُستغرِب ممّا شاهدته خلال الدقائق الماضيات أمام ناظريّ... فـ"عبدالسلام عارف" الذي سمعنا كثيراً عن شراسته ومزاجه الحاد، وجدته وَدوداً وَديعاً مع شيخنا العلاّمة.
هذا، وقد وافى الأجل المحتوم الشيخ العلامة "محمد رضا الشبيبي" -وكان رئيساً للمجمع العلمي العراقي- بعد ذلك بـ(11) شهراً، وفي فجر (الجمعة 26/11/1965) تحديداً، إذْ أوفَدَ "عبدالسلام عارف" كلاً من وزير التربية "خضر عبدالغفور" ووزير الدولة "سلمان الصفواني" ممثِّلَين عنه وعن الحكومة العراقية لحضور مراسيم تشييعه إنطلاقاً من "حُسَينيّة الكرادة-داخل" إلى مدينة "كربلاء المقدسة" حيث حضرا تشييعه من هناك ورافقا جثمانه الطاهر إلى مثواه الأخير في "النجف الاشرف" في صباح اليوم التالي.
مقالات اخرى للكاتب