استقلالية القضاء، واحدة من الإشكاليات التي تواجه العملية السياسية، ولعلها انتقلت الى الشارع الذي يطالب اليوم بالإنصاف والعدالة من الحكومة، وليس من القضاء، لأنه أدرك تماماً ان سلطة القضاء باتت مسيسة، وتخضع للسلطة التنفيذية.
المدافعون عن الحكومة، وائتلافها الحاكم، يحاولون التعكز على مواد دستورية تثبت إستقلالية القضاء، ونحن نتفق معهم تماماً على ان الدستور اعطى استقلالية كاملة للسلطة القضائية، وتكفينا المادة 19/ اولاً التي نصت على ان " القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون"، لكن لو اعتمدنا على النصوص، لألزمتنا الأنظمة السابقة بها ايضاً، فهذا دستور عام 1970 المؤقت ينص في مادته 60/ أ على ان "القضاء مستقل لا سلطان عليه لغير القانون"، كما ان دستور عام 1964 المؤقت يؤكد استقلالية القضاء، حيث ينص في مادته 85 على ان "الحكام والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في قضائهم لغير القانون، ولا يجوز لأية سلطة التدخل في استقلال القضاء او شؤون العدالة"، وللانصاف ، نقول انها مواد غاية في الروعة، لكنها عمليا لم تكن كذلك، وهذه حجة على ساسة اليوم الذين كانوا يطعنون بقضاء الأمس بأنه غير مستقل ومسيس، غير مكترثين بنصوص الدستور، لكنهم بعد أن اصبحوا في السلطة تغيرت مفاهيمهم ازاء القضاء واذا بهم يتباهون بتاريخه الطويل وسلامة احكامه ونزاهته، وهذا كله لانختلف عليه، لكننا فقط نركز على استقلالية القضاء، ليس من حيث النصوص الدستورية، وانما الواقع الفعلي الذي يجعل من السلطة التنفيذية مهيمنة على سلطة القضاء وتحركها تبعاً لأهدافها ومشاريعها.
لا شك ان استقلالية القضاء مصونة دستورياً، لكنها عملياً خاضعة لسلطات أخرى، ويكفي ان نقول ان هناك تدخلاً من السلطة التنفيذية في عمل القضاء، خاصة في الجانب الجزائي، والقضايا التي تحمل طابعاً سياسياً، اذ يضطلع ضباط ومنتسبو وزارة الداخلية وحتى وزارة الدفاع، وكلاهما جهة تنفيذية، بالتحقيق في القضايا الجزائية، بدلاً من جهات حقوقية مختصة.
وتفرز عن ذلك مخالفات قانونية كثيرة، لعل ابرزها استخدام وسائل غير انسانية في انتزاع الإعترافات من المتهمين، والانكى من ذلك اعتماد القضاة على تلك الاعترفات في اصدار الاحكام، وبشكل غير مباشر يصبح الجهاز التنفيذي هو الجهة التي تحدد الحكم، فيما يتحول دور القاضي الى مجرد تالياً للحكم، فأية استقلالية بعد ذلك.
ربما يتحجج بعضهم بقلة الملاك الحقوقي في السجون والتوقيفات، ما يفسح المجال لأكبر الجهات التنفيذية للتدخل في عمل القضاء، وهذا التبرير لا يصح بكل الأحوال، لأنه يصطدم بأهم وظيفة للسلطة وهي تحقيق العدالة الذي يتطلب تهيئة ملاكاته وأجهزته مقدماً على أي جهاز آخر.
القضاء اليوم يصطدم بعقبتين ،هي المخبر السري ،والتعذيب، اذ لا يستطيع ان ينفي التهم عن المتهم مهما حاول هذا المتهم ان يثبت ان اعترافه جاء بالإكراه، كما ان السلطة التنفيذية لا تسمح للمتهم ان يدافع عن نفسه، لمعرفته المسبقة ان القضاء كسلطة لا يمكن ان تمنحه الأمان من سلطة السجان، كما لا يسمح له بإستخدام الحقوق المكفولة له قانوناً، فهل سمعت عن متهم ألقي القبض عليه استطاع ان يطالب معتقليه بكشف هوياتهم، او الاطلاع على مذكرة توقيفه، وهل يا ترى عرف اهله او اقربائه الجهة التي اعتقلته، ومكان احتجازه؟.
ثم، هل يمكن لمحامٍ ان يزوره ويحضر التحقيقات معه، ويطلع على اوراق الضبط، مثلما هي الاجراءات الاصولية المتبعة في كل دول العالم، بما فيها العراق صاحب التأريخ القضائي الطويل؟.
هذه الحقوق، لم تأت من كوكب آخر، ولا من دولة اخرى، وانما تنص عليها مواد الدستور الحالي، لكنها معطلة، بممارسات إستثنائية، وجهات تنفيذية تمتلك صلاحيات خارج القانون، تسيء لمهمة العدالة، وتعتقل عشوائياً، وتسب وتشتم وتنتهك كل الحقوق الإنسانية، وبعد ذلك تأتي وزارة حقوق الانسان تطالب وسائل الإعلام بالحديث عن جرائم العهد السابق، وكأنها وزارة تأريخية لا تعنيها الانتهاكات التي تحصل اليوم، ولعلها تؤمن بتعتيق الحقوق، وبالتالي لايحصل المظلوم على حقه في وقته، وانما في زمن لاحق ربما لايكون هو موجوداً فيه !!. استقلالية القضاء، ايها السادة، تصبح مجرد مادة جامدة، اذا كان المتهم غير قادر على اثبات براءته امام محكمة مختصة، واذا عجز عن محاسبة سجانية الذين اساءوا اليه وعرضوه لشتى انواع التعذيب، واذا كانت هناك سجون سرية لا يعلم بها قاض ولا محام، واذا ظل في زنزانته بعد الحكم عليه بالبراءة شهوراً وسنين، ضمن ما يعرف بالحبس الاحتياطي، او السجن على ذمة دفع رشا لسجانيه استقلالية القضاء محترمة دستورياً، لكنها غير مفعلة، وتحتاج الى فصل بائن
بينونة كبرى بينها وبين السلطة التنفيذية.
مقالات اخرى للكاتب