هل هي امنية الرب ان يرحل الفنانون والشعراء والمطربون، منهم من يرحل خارج العراق، والقسم الآخر يغادر الحياة الى مقابر لاتضع سوى شاهدة للقبر توحي بان امل طه او عبد الجبار الشرقاوي كانا فنانين، هنا ترقد المرحومة فنانة الشعب امل طه شايع، وهنا يرقد المغفور له الفنان عبد الجبار الشرقاوي، لم يذكر احد انه نفس الرجل الذي جسد في اعماق الازقة شخصية المختار، مختار المحلة المتعاطف مع الناس، ولم يذكر احد ان الفنانة التي سكنت مقبرة النجف هي ام فضولي التي اسعدت الناس في مجموعة تمثيليات سينما، حين كان يضايقها عزيز كريم ويضايق زوجها محمد القيسي ابو فضولي، فيردد لازمته التي انتشرت مابين فئات الشعب العراقي حينذاك: ( نارك قلبي نارك).لم يكن الشرقاوي شاعرا فيرثيه شاعر آخر، ولم يكن مطربا لنردد اغنياته ونقيم مأتما خاصا يتناول الصوت الملائكي الذي رحل بعيدا وبصورة مفاجئة، كان فنانا يحترق ويأخذ من اعصابه ليعطي للمشاهد حقيقة الدور ويرسم له صورة واضحة عن معاناة الشخصية التي يجسدها، لم يكن سوى عابر سبيل اتعب اعصابه وارهق نفسه، فاستسلم للموت على قارعة الطريق دون ان يكون مسجى او يحيط به الاهل والاقارب والاصدقاء، على غفلة رحل رحيلا سريعا، وترك كما من الاعمال التلفزيونية سينساها المشرفون على القنوات الفضائية،
فالرجل لم يكن جميلا ولاغنيا، وقد التحق بطابور الفنانين المظلومين وهو بعمر يزيد على الاربعين عاما فكانت حصته بامر البطولة شيئا بعيدا ومستحيلا، لكنه مع هذا اجاد اجادة تامة في تجسيد اية شخصية تسند اليه وكأنه قد عاش مع بغداد آلاف السنين فعجن معها بطبعها وطبيعتها، لن تحصد ايها الرجل سوى نعي بسيط في صحيفة واسفل الصفحة، وانت الذي تسامى على المرض والجرح وراح يضعنا امام الضمير الحي للفنان الذي يحاول بشتى الطرق ان يكون الشخصية الحقيقية والتلقائية التي تبعث بنور توهجها للمشاهد.وهو في هذا يحترق ليجعل الآخرين اكثر نورا، واكثر اضاءة، وهنا تحضرني قصيدة للشاعر ادونيس، صرت انا والماء توأمين،اولد باسم الله، ويولد فيّ الماء، لم تكن مختارا ان تكون فنانا، بل ولدت لتكون فنانا، وولدنا لنكون متعبين، فالفنان مرآة الكون التي تعكس كل شيء، وهذا الوجود الفني الذي يحياه الفنان لايمكن ان يهبط الى مستوى الوجود العادي الذي يمثله السياسي، ولذا يجهد السياسي ان يجعل عصابة على عيون الآخرين ليعيشوا في الظلمة، ويجهد الفنان على ازالة تلك العصابة ليعيش الناس في النور، وكم هو البون شاسعا بين الاثنين، بغداد التي جسد الشرقاوي وامل طه روحها بشكل فني مختلف لهي مدينة مليئة بالاحالات الفنية التاريخية والسياسية، وقد نهل الاثنان منها حد الارتواء، ولنعود ثانية الى ادونيس حيث يقول: قولوا لهذا التابوت الممدد حتى الشاطىء الاطلسي... انني لا املك ثمن منديل لارثيه. فهو الوطن التابوت ايها الشرقاوي وخجل ادونيس كخجلك من الانتماء له.
مقالات اخرى للكاتب