في كتابها الثاني، (في حديقة الملك) والذي سيصدر قريبا عن الدار اللبنانية للمطبوعات في بيروت كتبت ميادة العسكري عن شارع المتنبي .. وقد خصت موقعنا بهذا المقطع :
واجهات ابنية عثمانية رائعة في قدمها وارتباطها بماضي الزمان والمكان .. كتب من كل العصور والازمنة والتيارات السياسية والاجتماعية تفترش الارض مع صحف اليوم ..وضجة العمل وكبة السراي وكاهي المتنبي .. كل ذلك يسارع من دقات القلب واندفاع الادرينالين في الدم .. انه شارع المتنبي المغموس بحبر الطباعة وقيمر الكاهي وشاي الالفة في اروقة الشارع والابنية المصطفة على جانبيه ..
انه شارع المتنبي .. شارع الطباعة والقراءة والثقافة في العراق .. والذي يقع في بدايات شارع الرشيد من ناحية الميدان وبالقرب من حي يهودي قديم في المنطقة كان يحفل بالعوائل المسلمة واليهودية والمتعايشة بسلام وامان فيما بينها ...
سمي الشارع بهذا الاسم نسبة للشاعر ابو الطيب المتنبي وهو شاعر عراقي النشأة عربي الهوية (915 - 23 ايلول 965).
ويتميز شارع المتنبي بدور الطباعة ومحلات تجليد الكتب المنتشرة على طوله، الى جانب عدد قليل من المكتبات المتخصصة ببيع الكتب المهمة في العراق، مثل مكتبة النهضة ومؤسسة قاسم رجب للنشر.
ومع أن شارع المتنبي قديم وضيق غير أن شراء أو استئجار متجر في هذا الشارع من الأمور صعبة التحقيق، ان لم نقل مستحيلة.... حتى وان حالف احدهم الحظ في العثور على أحد المتاجر، فإنه بالتأكيد سيكون مكلفا للغاية.
كانت مطبعتي تقع في الطالبية التي تبعد نحو 25 دقيقة بالسيارة عن شارع المتنبي.
وكان ذلك عام 1994 عندما قررت استئجار محل في هذا الشارع.
كنت بحاجة الى أيجاد محل في شارع المتنبي كواجهة ضرورية لاستلام العمل لأن الشارع بحد ذاته يعتبر القلب والرئة التي تتنفس من خلالها اعمال الطباعة ومركزا رئيسا لعالم الكتب، كما أنه مقصدا لكل شخص من جميع انحاء العراق الذي تحدوه الرغبة في انجاز أعماله في مجالات الطباعة والنشر او الامور التجارية الاخرى ذات الصلة.
لذلك، وفي صباح أحد الأيام المشرقة من السنوات التي كان العراق فيها يخضع لعقوبات الأمم المتحدة، أجلست طفليّ في المقعد الخلفي لسيارتي متجهة نحو الشارع القديم على أمل العثور على أي مكتب شاغر حتى وان كان من غرفة واحدة.
عند اقترابي من الشارع، ايقنت ان معجزة قد حدثت عندما وجدت موقفا خاليا حيث قمت بركن سيارتي في شارع المتنبي الذي لا تتوفر فيه مواقف شاغرة للسيارات طوال النهار والى ما بعد المغرب عندما يفرغ الشارع من اهله تماما ..
كان جميع مالكي وأصحاب دور الطباعة في شارع المتنبي يعرفون بعضهم البعض، إذ كان يتعين على اصحاب المطابع الالتقاء مرة كل شهرين في دار الحرية للطباعة والنشر – وهي إحدى المؤسسات المملوكة للحكومة العراقية، التي كنا نجتمع فيها لتلقي التعليمات المتعلقة بالمواد التي يسمح بطباعتها وتلك التي لا يسمح بها .. وكان هذا أحد الاسباب وراء معرفتنا ببعضنا.
كان حارس مبنى الاستربادي الذي يعود بنائه للاعوام التي سبقت ثلاثين القرن الماضي، يجلس على احدى درجات المبنى ، والى يساره صفت الرفوف الخشبية التي كان الحارس يعرض عليها علب السجائر والكبريت كعمل إضافي يسعى من وراءه الى تحسين دخله. ...علت الابتسامة وجهه عندما تقدمت نحوه لاعتقاده بانني ارغب في شراء علبة سجائر . ....سألته عما إذا كان هناك مكتب شاغر في المبنى.
نظر الى الخلف باتجاه درجات المبنى وكأنه يستشير علب الدخان ثم استدار نحوي قائلا : "هل ستذكرينني بالبقشيش ان اعجبك المكتب الشاغر؟"
ابتسمت وحاولت ان اتمالك نفسي حتى لا أقفز من شدة الفرح.. فالعثور على مساحة شاغرة في موقف السيارات في شارع المتنبي معجزة بحد ذاتها ..فكيف بالحصول على مكتب شاغر في ذلك المبنى... لقد كان الأمر يدعو الى الدهشة تماما!
بعد توقيع عقد الإيجار مع وكيل المبنى، قمت مسرعة الى أقرب محل لصناعة لافتات المحلات لعمل لافتة كبيرة لمكتبي تتناسب مع واجهته حتى تأخذ مكانها بشكل صحيح في أعلى الشرفة القديمة المزينة بالنقوش حسب الطريقة التي كانت دارجة في اوائل القرن الماضي ..
على الواجهة الامامية لمكتبي وضعت لافتة تحمل اسم مكتب الفيء والعلي - وهي اسماء اولادي املا في جلب الحظ.
في ذلك المكتب الذي كانت تتخلله اشعة الشمس قمت بنصب سبعة أجهزة كمبيوتر ليكون المكتب مستعدا لتصميم الاف الملصقات التجارية لجميع دور الطباعة التي تقع في محيط مكتبي.
أما في غرفة مكتبي، فقد قمت بوضع مكتب هو عبارة عن قطعة قديمة من القرن الثامن عشر كانت والدتي قد اشترتها من تاجر تحف ارمني في بغداد يدعى "فارتان".
المكتب كان مصنوع من خشب الماهوجني الثقيل ويتكون من غلاف الخارجي مزخرف بصفين من الأدراج على جانبيه.
كان الزمن قد ترك اثاره على لون المكتب الذي تلاشى مع الوقت، لذلك أضفت عليه إحدى لمساتي عندما أرسلته إلى حي الاعظمية حيث احد النجارين الذي كان متجره يزخر بالقطع الأثرية القديمة التي تحتاج إلى استعادة شكلها مرة أخرى .. او ربما اعادة تأهيلها ايضا ..
وما أن نظر صاحب النجارة الى مكتب الخشب ذاك حتى قال وقد بدت على وجهه ابتسامة واسعة ... "أه، نعم!" قالها وكأنه تذكر امر ما ..... "نعم!! أنا أذكر هذه القطعة. ...كان فارتان عام 1960 يريد بيعها، وعندما قررت شرائها، قام شخص آخر بشرائها قبلي ".
فقلت له بأن والدتي هي الشخص الذي اشتراها، ثم واصلت حديثي شارحة له ما اريد، فهز رأسه قائلا : لا
وأشار مؤكدا بأنه يستطيع إعادة اللون الاصلي للمكتب
وبعد أسابيع ، كاد قلبي يقفز من شدة الفرح عندما رأيت مكتبي وقد عاد يحمل لون الشوكولاتة البنية الداكنة وهو اللون الذي اردته منذ البداية.. اما المقابض النحاسية لأدراج المكتب فكانت تتلألأ مثل النجوم في سماء ليل صحراوي حالك، مما جعلني أختال من روعة النتيجة التي كانت مذهلة بحق حيث راودتني نفسي لإعادة المكتب الى المنزل والاحتفاظ به هناك ..
زهت غرفة مكتبي بحلتها الجديدة ونوافذها البغدادية الواسعة المطلة على شارع الرشيد .. كانت تلك النوافذ مشرعة .. يتخللها شعاع الشمس الذهبي وبريق يلتمع عبر الألواح الزجاجية مخترقا ظلال البنايات على جانبي الشارع الذي تصدح فيه اصوات المارة والسيارات ورفرفة الحمام التي غالبا ما تجد في تلك النوافذ محطتها التالية بعد أن تغادر من وقت لآخر مسجد الحيدرخانة الذي يقع على الشارع المقابل مباشرة ..
تذكرت بعض القصص التي كانت ترويها لي جدتي فخرية السعيد عن جدي جعفر العسكري وخال والدي نوري السعيد عندما كانا يسيران سويا عبر الشارع برفقة الملك فيصل الأول بعد اختياره لعرش العراق.
كان الملك فيصل مع صديقيه غالبا ما يتناولون القيمر والكاهي في محلات فتحت للفطور في هذه المنطقة ...