في ابسط تعريف لشخصية نيقولا ماكيافيلي (1469- 1527) انه فيلسوف ايطالي، قال بأن الوسائل كلها مبررة من اجل تحقيق السلطان السياسي . وفي التوثيق المعجمي السياسي والدبلوماسي، ان الماكيافيلية- سياسة المراوغة والخداع هي مبدأ سياسي ابتدعه ماكيافيل يقضي بايثار الغش والخداع والمراوغة والتسويف وسوء النية والدهاء والانانية في تحقيق الاهداف المنشودة ومن دون اقامة اي اعتبار لنداء الضمير او مبادئ الدين والاخلاق على اساس ان الغاية تبرر الوسيلة، وقد التصقت صفة الماكيافيلية بالسياسي او الدبلوماسي الذي يصل الى اهدافه بالخداع والمراوغة.. والذي يريد التفاصيل في العلاقة بين الحاكم وشعبه والحاكم ورجال السلطة والحاكم والسياسة الخارجية يقرأ اصل كتاب ماكيافيل الاخير ليجد فيه ما يشاء..
اما نحن هنا بصدد نمط جديد من الماكيافيلية او لنقل هو النمط المحسن من النمط الاول، وبمعالجة مدلول كلمة محسن فانها تحتضن العصرنة والتدويل مما على وجه الحصر، ولم يستطع تحقيق ذلك في العالم والتاريخ، ومنذ ماكيافيل، الا الولايات المتحدة الاميركية وبعد الحرب العالمية الثانية تحديدا حتى بلغت الذروة الماكيافيلية بعد الحرب الاميركية- العراقية المباشرة 1991 والذيول الثلاثينية المعروفة.
تبدو عصرنة الماكيافيلية سابقة لتدويلها في التطبيق العملي للسياسة الخارجية الاميركية، وقد اتخذت شكلا رئيسيا واحداً تتبعه اشكال فرعية تنطلق منه وتنتهي اليه معا، انه اطلاق القول او الرأي وممارسة غيره، وهذا الغير قد يكون نقيضا او ضدا، وقد يكون انحرافاً او تحريرا بل قد يصير نكولا وتحيزا او نكوصا حتى تنتهي اللعبة بدسيسة او مؤامرة تصل بها الميكافيلية الاميركية الى غايتها الاخيرة.
دعنا هنا نحاور في كلمة الحق وما يرتبط بها من نعوت او صفات في السياسة والدبلوماسية وطريقة تعامل العقل الاميركي معها ماكيافيليا بعد ان وضعت دولة الولايات المتحدة نفسها موضع السياسي الماكيافيلي الفرد. وبعد ان جعلت من الامم والشعوب ادوات تتعامل معها على حسب خريطة ماكيافيلية مبتدعة من المصالح والغايات الغريبة والبعيدة . والحق الذي نريد هو حقوق كثيرة في الواقع، ومنها حق الحرية والمساواة، فلقد توسلت الولايات المتحدة بجعله مبدأ في الداخل الوطني ومنعته ان يصير مبدأ في العلاقات الدولية بخاصة بوجود حق النقض الفيتو لها وللاعضاء الدائمين في مجلس الامن من دون مئة او اكثر من الدول الاخرى لها مقومات الدولة المتوسطة والكبيرة.
خذ ايضا تطبيقات حق الحياد وحق الخيار وحق الدفاع عن النفس وحق تقرير المصير، ثم انظر كيف تتعامل الولايات المتحدة مع الدول والشعوب ذات العلاقة بكل منها على غير قانون ثابت ومن دون نهج ثابت معا. اما الامثلة على خرق حق السيادة فحدث عنها ولا حرج. واول معالم هذا الخرق التجسس بكل انواعه البشري والتقني على جميع الاعداء والاصدقاء والحلفاء مرة واحدة ولكن بصيغ مختلفة لان الجميع في آخر المطاف هم منافسون مستقبليون، وهذا يعني ان مبدأ الثقة المتبادلة في العلاقة الاميركية- الدولية قد تحولت الى سوء الائتمان في الشخصية السياسية الاميركية، وهو من صميم المبادئ الميكافيلية بحق، ثم تظهر امامنا مجموعة تعبيرات سياسية – دبلوماسية ذات ابعاد سلوكية قوية الا انها تحولت الى نقيضها بفعل النهج الاميركي مع الدول الخصم على وجه التحديد كالعلاقة بين مفهوم حقوق الدول وبين مفهوم الحق الخاص، وهل يعلو الثاني على الاول ام هو جزء منه؟
ان الولايات المتحدة تمنح نفسها حقا خاصا على حساب حقوق الدول في الوضع العام والواقع السياسي والمرتبة العلمية والقدرة الاقتصادية ثم، وهذا هو الاهم، في الهيمنة على العالم للاسباب نفسها، مع ذلك تراها تدافع بحماسة عن حقوق هي في التطبيق ممارسات نسبية لا يمثل الاختلاف عليها او الخلاف بسببها نقطة تأمل فلسفية او فكرية عامة على الاطلاق، كالدفاع عن حق الكلام مثلا او الحق السياسي او حق العبادة او حق المقاضاة قانونا ثم تشتد الماكيافيلية المحسنة في سياسة الولايات المتحدة ويرتفع زعيقها وتتعالى صرخاتها الهستيرية اذا ما اردنا ان نبحث حقوق الانسان في داخل الولايات المتحدة، فتنقلب على الاخرين كنمرة محبوسة جائعة لتهاجم الكبير والصغير والابيض والاسود والاعلى والاسفل لان صديقا لها انكشف سره او عميلا لها انفضح امره او احد رعاياها تورط في اغتصاب فتاة ولو في جزيرة اوكيناوا باليابان.
لم يشهد التاريخ السياسي مثلا اسوأ من مثل دفاع الولايات المتحدة عن حقوق الانسان دفاعا مجتزا ومتميزاً ومنحرفا بل رذيلا ومتهرئا في نسبيته الظالمة وانتهازيته القذرة بعيدا عن مبدأ القضية الواحدة بمعالجة ثابتة او العقاب من جنس العمل او الذنب او مبدأ ولا تزر وازرة وزر اخرى، انها مسألة مشوشة تماما في عقل الولايات المتحدة وسلوكها سويا، بل تتصرف وكأن العالم لا يفهم هذا العقل وذاك السلوك، اننا نفهم ذلك جيدا ولكننا لا نستطيع محاكاته عمليا لانه من احط الرذائل التي هاجمها القرآن والانجيل والتوراة ونحن مؤمنون بالكتب المنزلة والانبياء واليوم الآخر، ولا ننسى علمانية الصهيونية والرأسمالية الغارقة في المادية العلمية التي كانت السبب الرئيس في امتطاء رأسها الماكيافيلية السياسية المعاصرة في البيت الابيض الامريكي وفي داوننغ ستريت بلندن ومن قبلهما وبعدهما في تل ابيب، انهم حرموا العراق وحرموا العرب جميعا من حق المداولة والمناقشة، في مجلس الامن سواء بصدد القضايا الوطنية الخاصة (العراق) ام بصدد القضايا القومية (فلسطين والقدس الشريف)، و (السودان) و (سوريا).. وهذا الحق مكفول في لائحة حقوق الانسان على اساس حق الفرد وحق الامم معا، فكيف تصدر القرارات بالاستماع الى شاهد متميز واحد فقط؟ اما بقية الشهود فهم تبع وفروع، تحول الحق الخاص في واقع الامر وبتأثير القوة والعملة الاجنبية الى ما تسميه الدبلوماسية الدولية- الامتياز الذي اكتسب صفة الديمومة والثبات- ثم لم يستقم عليها على نهج العدل او الانصاف حسب كل منظور ازاء الحق في الشرائع السماوية والقوانين الوضعية، بل صار وسيلة للابتزاز – خذ ولا تعطي – وفي افضل الاحوال – اعط القليل وخذ الكثير – اما في حالة القهر وفراغ الحق والعدوانية فالشعار بموجب هذا الامتياز هو –خذ واقتل- وهذا ما تريده اليهودية اصلا عبر فذلكات الصهيونية العالمية ثم انتقلت عدواها الى الرأس الاميركي البروتستانتي ظاهرا والماكيافيلي سرا ومعتقدا، ولا غرابة في ذلك مادام المجتمع الاميركي نفسه بدأ يدفع ثمن الانتقادات الصهيونية والاستحواذ المخابراتي على مقدراته على شكل قضيم متدرج للحقوق المدنية والحقوق الدستورية للمواطن الاميركي نفسه، ولا نستبعد او نشك في ان يأتي اليوم الذي يستيقظ فيه الشعب الاميركي على حجم الخسائر والتضحيات التي يقدمها مقابل عدوانية دولته وتسلطها العالمي وانجازاها الاعمى غير المحق في الغالب الاعم وللحق نفسه في القليل النادر بتأثير حادلة الاعلام المصهين في قلبه ورئتيه واطرافه، ولات ساعة ندم...
مقالات اخرى للكاتب