بقلم نعمة السوداني:
لابد من التوقف عند عتبات قصائد الأستاذ الجليل الشاعر عبد الجبار الفياض منذ اللحظة الأولى لانطلاق شرارة النص الذي يحمل جدلية خاصة في العلاقة بين الصورة واللغة والموضوع , ومن ثم تنير لنا درب القصيدة وتمنح لنا لذة القراءة . فالشاعر يلون بحروفه وتشكيلات اللغة نصوصه معتمدا على البنية الدرامية للأحداث , منتجا لنا تشكيلا فنيا جديدا قل ما نراه ونقرأه ونشعر به, كما في قسوة الاحداث نفسها كأننا أمام مشهدية درامية فالبكاء في بغداد , والشمس حينما تعصب عينيها .. وحينما يطفأ القمر ذلك الضوء المنير ! وهذا هو حال البلاد اليوم كما تراه عين الشاعر الناقلة للصورة : لو بكتْ بغدادُ بكتْ من الملائكةِ عيون وعصبتِ الشَّمسُ عينيْها وأطفأَ القمُر شموعَ عُرسِه وتدلتِ الثـُريا بحبالٍ منْ ألم ومنعَ دجلةُ أمواجَهُ من صُنعِ أسورةَ حُسنٍ لضفافِه وتكورتِ الحروفُ نقطةً سوداءَ في أبجديةِ الزّمنِ المُنكسر رُفعتِ الأقلامُ . . ثم ينتقل الشاعر الى تصوير حالات أخرى اشد قساوة وحزنا وفجيعة , فالإبحار في السراب ,كما هو الإبحار في الحلم الذي لا يتحقق, ولا يمسك في اليدين , و حينما يردد أنين الألم والجوع وأكفان الموتى في عمق القصيدة تأتينا الصورة مشبعة بالموت , صورة تطارد أخرى في الخيال كما هو الواقع ! والموت يترك لنا أثره في القصيدة : صُلِبَ الجوعُ من أُذنيْه على بواباتِ أحياء تقتاتُ نهاياتِ الأشياء لم تمسسْها يدٌ من سُلطانٍ قط وما شهدتْ عرباتِ اللّونِ الأسود الأشياءُ هنا تولدُ بلونِ العِشق ولا تعرفُ رقصاً بأكفانِ الموتى .. يعتبر الإبداع صفة عند البشر . وليس شيئا موروثا . ولا يحتكر عند مجموعة معينة من الناس , لذلك يتطلب الإبداع المرونة بالفكر وطلاقة واسعة , لأنه الوقت نفسه نوع من التفكير يؤدي الى الإنتاج ويتصف بالجدية والمرونة والأصالة . وهذه الأصول هي واحة المبدع الأستاذ الفياض . ان الأصالة والمرونة عند التفكير الإبداعي في منظومة شاعرنا الذي نتناول جزء من قصائده التي جاءت لحل أية مشكلة من مشاكل اليوم في مجتمعنا , نراه يتسم بالأصالة والمعرفة بالإضافة الى الحساسية الأكثر من الاعتيادية التي يتمتع بها إزاء ما يجري اليوم في الوطن الكبير ! ويتناولها بدقة متناهية . إن الخوف كما نعرف يقتل أو يجفف منابع الإبداع في العقل البشري , إذ لا يوجد إبداع مع الخوف ,أما في القلق الواقعي فهذه مسألة طبيعية وليس ما نعني بالقلق المحيط, فقد ثبت انه كلما كان هناك خوف يقل الإبداع , ولدينا هناك أمثلة عديدة على هذا تحديدا في أجواء الدكتاتوريات البغيضة التي تعطي لنا عكس الأجواء الديمقراطية من نتائج صحية و التي يزهو فيها الإبداع والفكر النير ويأخذ أكثر مساحة في التألق والوصف والتعويض النفسي في الشعر من خلال النقد المستمر للأحوال المتدهورة . و أيضا الأجواء الأكثر حرية تسمح بذلك التطور الفكري الإنساني الثقافي والفني ،كما وتجيز للشاعر التحليق بفضاءات متعددة من دون إن يلحقه الضرر . أما النظام التعسفي وأجهزته القمعية واللصوص الذين يطوفون حوله هم من يحدوا من القيم العالية الإنسانية للإبداع والمبدعين من اجل قتل تلك الصورة الفنية أو الشعرية التي يمتلكها المبدع ! وبذلك فهي تصنع الخوف للأخر , الخوف الذي يضعف في ( بعض الأحيان ) الثقة بالنفس , ومع كل هذا يخلق المبدع جوا خاصا له ضمن هذه الأجواء الإرهابية , يخلق جوا مناسبا له كي يقوم في عملية إنتاج ما يريد بعيدا عن أنظار السلطة وأيضا هنا نقول ذلك بنسب معينة استنادا الى حديثنا أعلاه في ( بعض الأحيان) لأنها تحاول دائما أن تعمل في أسلوب التصحر الفكري وتجعل من المثقف والأديب و الشاعر أو الفنان الى صحراء وكثبان من الرمال ليس لها مستقر. وبيت القصيد هنا : حينما يتصحر العقل ولا تنبت به عشبة للخلود نقرأ على الدنيا السلام !! صحراء الوهم تأكدتُ أنَّ غبائي كحذائي لهُ قيمةُ اللؤلؤ في مجاهلِ البحار سمْسمٌ يفتحُ الآفاقَ في وجهِ اللّصوصِ في تسلّقِ البعيد والطّوافِ حولَ صَنمٍ ماتَ لتوّهِ ووضعَ لسانَهُ بلسانِ كلبٍ وتنفّسَ إنّهما مَعَاً يلهثان . . . صحراء الوهم فيقول ومن ثم نرى أن شاعرنا يبتعد بأدواته عن التفكير العادي والنمطي ويميل الى الإنتاج الفكري أي بمعنى أخر إنتاج التفكير، وهذا أيضا يخضع لأسباب لأنه أي المبدع يختلف عن الآخرين من الناس بتفكيرهم ،فهو بذلك لا يجاريهم أيضا. إن المبدع الأستاذ عبد الجبار الفياض ينطلق من نزعات العقل والقلب في آن واحد بأدواته وتجلياته حيث ينبع الشعر من منبع الإبداع بالعذوبة والنقاء وصفاء السريرة , وهو أيضا الذي يستطيع أن يضيف أشياء كثيرة من خلال ذكائه الميداني الذي يتمتع به ،لكونه يتمتع بمهارات القدرة على الإبداع في نحت اللغة وتحويلها الى صورة جمالية , ونحن نعيش مرحلة الصورة الشعرية التي تعتبر اليوم من أهم مكونات الفنون التي ترتبط ببعضها بعض , فمثلا الطاقة في متن النص الشعري التي تعني توليد حلول جديدة لأفكار وإعطاء بدائل غير مألوفة في لغة الشعر وجمالية الصورة التي تُعتمد الآن على الفهم السريع للنص المرئي على المسموع من خلال التحريض والتأويل الذي يتفجر من خلاله الشعر في ثنايا النصوص التي تمدنا بالقيم الإنسانية كما جاء في ما كتبنا أعلاه. ونحن نتأمل هذه القصائد . لان الصورة هي من تقتحم العين قبل الأذن وهذا ما يثير اليوم الإبداع في إيقاعات الشعر وموسيقاه ،نجد اليوم هذا كله في القدرة على الإنتاج اللغوي والفكري والفني في أدب شاعرنا الجليل . إن شخصية المبدع لابد وان تتمتع بصفات وسمات خاصة وتعتمد على الأصالة والقدرة على التغيير وبشكل مميز عبر نافذة الأفكار البعيدة التي يصفها ويصنعها ،وهي من بناة أفكاره ولم تكن سائدة في وقت إنتاجها وغير شائعة . إن المهارة والتميز في عقل المبدع تميز ما يطرحه , وفي جوانب أخرى مضيئة لدى المبدع تتعلق بتقديم ما هو مثير وخطير جدا في حالة إحساسه باي مشكلة يحس بها , نراه يبتدع لها حلا بإحساسه وبمستوى وعيه من خلال مضامين النص وبإضافة معلومات وتفاصيل جديدة لا يصل إليها الأخر .