* على السوداني أجاد رسم الواقع بسخرية متقنة
* تفرد بأسلوبه الأدبي، وأَخذَ عليه منتقدوه الاستهلاكية في الضحك
ذهب الدكتور جابر قميحة في دراسة له بعنوان "النكتة.. أدب وفن وإبداع" إلى أن الضحك نوعان: ضحك تعبيري، وضحك تعويضي، والأول مصدره شعور الإنسان بالفرح والسعادة، أما النوع الثاني فسببه تلاحق الشدائد والمصائب على الإنسان حتى يفقد إحساسه بها، وأمام حالة "اللامبالاة" هذه يلجأ المرزوء إلى ملء منطقة السعادة المفقودة في شعوره بالضحك الذي يأخذ صورة السخرية من ظالميه وأعدائه.. يسخر منهم ويضحك، ويُضحِك الآخرين عليهم؛ منتقمًا منهم بلسانه بعد أن عجز عن الثأر منهم بيده، ويجد أن أَمْضَى سلاحٍ في هذا المقام هو "النكتة".
وهو ما ينطبق على الكاتب علي السوداني ، حسب تعريف (قميحة)، السوداني الذي سخر من ظالمي هذا الوطن بأسره ، وليس منه فحسب ، لذلك فهو قدم السخرية منهم على ما عداها ، ليتفرد بأسلوبه الساخر في وقت خلت الساحة الأدبية من هذا النوع من الكتابات التي تؤشر ما لا يراه الأخر للوهلة الأولى في الصورة ، ليأتي السوداني على ذكره بطريقة تخفف من هموم القارىء وتلمس وجعه بحرفية وفنية عالية. كانت مدرسته الأولى ( مقهى حسن عجمي) ببغداد ، تعلم منها ثقافة الصعاليك ، وأنضم من خلالها الى مجاميع المثقفين التي ترتاد ذلك المقهى ، وكانوا يعرفون أنفسهم بأنهم ( صعاليك بغداد) ، ذهب السوداني الى أسلوبه المحبب الساخر تعبيراً عن الحالة التي يشعر من خلالها بالألم والحزن عند سماعه أو مشاهدته لأي موقف إنساني حزين.
ومن ( مشروراته ) كما يسميها : أمريكا : تقبّلي كراهيتي وقصفَ حروفي
أمريكا : تقبّلي كراهيتي وقصفَ حروفي علي السوداني لعنة ألله وملائكته وكلّ من له حوبة ، على أمريكا الوغدة ، ومن والاها وظاهرها وعاونها ، على تدمير وتفكيك وسرقة بلاد ما بين النهرين الخالدين . أليوم اكتملتْ عشر يابسات كاسرات متلفات ملعونات ، منذ جاء الأمريكان ، يجرّون وراءهم وحوشاً بوجوه آدمية ، من كلّ . ألمخبر السرّي يطيح بفريد شوقي
ألمخبر السرّي يطيح بفريد شوقي علي السوداني ليست لديَّ بوصلة تعاونني في معمعة اختيار الشاشة . ربما المصادفة هي التي أوقعت حواسّي في شرك متابعة فلم الليلة . قد يكون ولَعي في مشاهدة هذا الصنف من الأفلام ، متأتٍّ من جذوري الراسخة بباب سينما بابل ، من أعمال شارع السعدون ببغداد العباسية . بطل الفلم . حاتم الصكر يكتب عن مكاتيب علي السوداني
مكاتيب الضحك والدموع د. حاتم الصكر ** كيف يمكن لكاتب أن يجمع بلاغة بخلاء الجاحظ ، وشعبويات الحياة اليومية بأدق تفاصيلها ؟ هذا السؤال يلح علينا ونحن نقرأ سخريات القاص علي السوداني في مقالات أسبوعية جمعها في كتاب بعنوان (مكاتيب عراقية…من سِفْر الضحك والوجع) صدر مجلده الثالث هذا العام. فأسلوب السوداني في مكاتبيه -التي هي تداعيات. اختار السخرية للتعبير عن نفسه ، ليتفرد في هذا الأسلوب ، على الرغم من صعوبته ، وعلى
الرغم أيضا من تمكنه من الأسلوب الاعتيادي الذي ينتهجه الآخرون في ولوجهم الى عالم الأدب . جمع علي السوداني بين البلاغة و تشعبات الحياة اليومية بكل تفاصيلها عبر كتاباته ، ونجح في تقديم أسلوب رصين له متابعيه ومريديه - وهم كثر- ربما يملك السوداني مساحة واسعة على قائمة المعجبين حين المقارنة بغيره من الكتاب والأدباء ، إذا ما أجرينا مقارنة بين هذا وذاك ، والسبب بكل تأكيد حرفية السوداني في تناول السخرية من واقع لامس حياة الناس وهمومهم بكل تفاصيلها، في وقت ذهب البعض من الأدباء لسرد الواقع بكل إشكاله المعتادة في القصة والرواية والمقال دون تغيير، دخل السوداني من باب واسع لكنه كان ولازال يجيد السباحة فيه وبامتياز وصولاً الى قلب القارىء الذي اعتاد أن يقرأ للسوداني بشغف يلامس همومه ويضع الإصبع على الجرح كما يقال.
مما أجاد به ، وصف بداية الرحلة الى عمان أو ( عمون ) كما يسميها:
هلو عيني بغداد بدأت قنادر الربع الأخيار، تعزف نغمَ الفرح على درج المقهى الصاعد، ظهريتها الدائخة، وقعتْ أعظم مجزرةٍ للتبويس المملِّ الذي فاقتْ حماستهُ، طقطقة ضلوع الموتى فوق دكّة التغسيل وهذا نبشٌ جديدٌ في باب فجريّةٍ موحشةٍ مثل أوّل فراق، كانت وقعتْ قبل عشرين سنة، وأرشفتْ نزولنا بعمّان الجميلة أول مرة.
نثيث مطرٍ ناعمٍ مثل زغب البنات الدلاليع، جعل برد المدينة يضرب الجسد الذي كان مثل جلدٍ يلملمُ كومة عظام، طقوس النزول الأول كانت تبدأ ببيعك كروص سكائر سومر أسود سنّ طويل، مع تأجيل إكراهي للتخلّي عن قمصلة الجلد العزيزة، وفق تدوينات عتاة صعاليك مقهى “حسن عجمي” الذين زفّوكَ قبل ليلةٍ سكرانة، صوب كراج علاوي الحلة الماجد.
نومة العوافي الأولى كانت ساعات معدودات بفندق الملك غازي المعتّق وسط عمّون، وقد كلّفتْني ثقباً صغيراً بجيبي الذي كان ساعتها، يغنّي كما أسطوانة حنين من داخل حسن.
و مما كتب أيضاً :
هذه نسخة مصححة منقحة مزيّدة ، من حياتي الراسخة على الأرض حتى الليلة ، صحبة صورة غلاف كتابي الأخير . من عاش بعمّان وبه رغبة قوية للحوز على نسخة من كتاب المكاتيب ، معمّدة بتوقيعي المذهل ، فبمستطاعه ذلك عن طريق : الدار الأهلية للنشر والتوزيع ، أو من كشك أبو علي ، أو من كشك سامي ، أو من كشك الجاحظ ، وهذه المعمارات كلها قائمة وسط ربة عمون .. أما من طشّته الأيام في الشتات البعيد ، فالأمر سيكون عن طريق طارش أو طارشة تحطّ على هذي البلاد الجميلة .
قال عنه الزعتري : انه تناول السخرية (كأرقى أشكال الرثاء)، ومنها ولج الى عالم نقد الواقع بما يحمله من مأساة تحيط بالوطن وأهله ، حتى كأنه يرثي الوطن عبر ما يؤشره من وقفات على مسيرة الحكومة، انتقد النظام الديمقراطي الذي جاء به الاحتلال ، وولج لانتقاد التدخلات الممجوجة لدول الجوار في (بلاد مابين القهرين)، كما اعتاد السوداني على تسميتها .
صنف بنظرته النقدية الواقعية للأشياء من حوله، لكنه كان يغطيها دائماً بعبثية تحتويها ليقدمها للقارئ باسلوب ساخر ، وقد نجح في ذلك ، فحاز أسلوبه القبول لدى القراء ، وبات من أكثر الادباء انتشاراً اليوم ، إذا استثنينا الرواد .
هو من جيل الستينات الذي عاش الألم والوجع بكل تفاصيله ، وعبر من خلاله الى القرن الجديد بمزيد من الألم بعد ضياع الوطن وتشتت أهله في المنافي ، ومنهم السوداني الذي عرف بانتمائه الى ( جيل الشتات) ، تأثر السوداني حسب أراء الكثير من النقاد بالراحل المبدع ( عبد الوهاب البياتي) ، لكنه تفرد في أسلوبه ، وأختط لنفسه نهجاً عرف به ألا وهو ( الأدب الساخر) ، وهو أي السوداني واقعي ملتزم بواقعيته، أمتلك أسلوبه الخاص بالتعبير عنها، يقول علي السوداني في وصف الوطن الذي يريد بسخرية أسلوبه:
«يعجبني وطن جميل حرّ قويّ جبّار مسالم عادل مثقّف متحضّر رحيم آمن ملوَّن كريم طيّب نقيّ نبيل، في شارعه حانة، وعلى مبعدة منه دار عبادة (...) والعاقل يختار، وطيّح الله حظ المفسدين في أرضه الواسعة».
يأخذ عليه البعض من الكتاب بأنه تحول من بداياته الناضجة الى ( الكاريكاتورية الاستهلاكية) ، لكنه يجيب وبصريح العبارة : «أنا ابن شوارع أخيّم على بعد شهقتين من الخمسين... قضيت أكثر من نصف هذه المدة في الشوارع».
من الواضح عند قراءة نصوص السوداني أنه قرأ وبشغف التراث الأدبي العربي الزاخر بمثل تلك النصوص ، و المليء بأدب السخرية التي نقلها المؤرخون ، وتركت تأثيراتها وبعمق في ذلك التراث الخالد، على الرغم من محاولات التشويه التي جرت للأدب العربي في عصور متعددة، إلا أن الواقع يفرض نفسه وبقوة لأخذ استمرار يته من التجارب الحقيقة والواقع المعاش ن حتى وصل الأمر الى علي السوداني ليرث ذلك الأثر الخالد ويبدع فيه وبإتقان ن ويكرسه كواقع جديد أعيد إحياءه بدقة الحرف والوصف ، لتكتمل صور السوداني الساخرة ، فتسجل إبداعاً يحسب له عبر استخدامه لمفردات باتت في طي النسيان ، لكنه أعاد لها الحياة من جديد.
وله أيضا :
في أية عصرية ممكنة في مقهى السنترال ، وسط عمّان ، أو بمقهى جفرا بعد انتصاف الليل ،
أو، في واحدة من حانات وسط عمّان الست ، ربما حانة الأردن الصغيرة - قد تكون حانة زوربا التي ربما شهدت ، واقعة توقيع كتابي الذي يلبط تحت أيمانكم الآن - حيث تنام ، ست نسخ من كتابي هذا ، بجوف حقيبتي الحميمة ، واحدة منهنّ ، سأشهرها بوجه شرطي طيّب ، قد يعترضني بشبهة السكر والترنّح ، فأقول له : أنا كاتب مشهور ، وهذا كتابي ، وصورتي على الغلاف الأخير، فيفلت يدي ، أو أية مصادفة تائهة .
نشأ على السوداني وتربى في مدينة الثورة في بغداد في وسط حي فقير وأسرة بسيطة ،بدء الكتابة في منتصف الثمانينات تقريباً وفي عام 1993 صدرت له أول مجموعة قصصية عن دار الشؤون الثقافية في بغداد بعنوان «المدفن المائي» ،و في عام 1994 اتُّهم بأنه نشر قصة قصيرة اسمها «آخر أخبار الولد الجميل» ضدّ النظام فهرب إلى عمان ،وعاش هناك وأستمر بكتاباته و مشواره الأدبي من هناك، وتميزت كتاباته بأنها كتابات سياسية ساخرة تنويرية، مليئة بالنقد السياسي الساخر وخاصة المتعلقة والمنتقدة للسياسية الحكومات الخاطئة.
له العديد من المؤلفات ، نذكر بعضا منها:
المدفن المائي مجموعة قصصية طبعت في دار الشؤون الثقافية في بغداد عام1993 .
الرجل المنازل مجموعة قصصية دار أزمنة عام 1996 .
بوككو وموككو مجموعة قصصية دار أزمنة عام1997
بالإضافة الى العديد من المجموعات القصصية والمقالات الصحفية التي امتازت بالنقد والسخرية من الواقع السياسي العراقي ، كان من اشرها ( مكاتيب عراقية) التي أعتاد السوداني نشرها في صحيفة العرب اللندنية.
مقالات اخرى للكاتب