الابتعاد عن فهم الأدلة القرآنية الظاهرة والاعتماد على الأجزاء اليسيرة من الإيضاح الذي يفضي بالعلماء دون غيرهم إلى التهافت غير المبرر على معرفة النهج الإلزامي لطبيعة حياة الكائنات قد لا يتناسب مع المحتوى الكبير الذي يجهر به الناس، ولهذا ترى تفرق الحقائق إلى كيفيات لا حصر لها وذلك بسبب التزام أولئك العلماء بالمناهج التي لا تخدم الغرض الأسمى لمعرفة أسرار الكتاب المبين، ومن هنا تداخلت أفكارهم مع إثبات الفصول التي تعتمد في رواياتها على النقل الذي لا يُرجح العقلاء جل ما فيه، وهذا ما جعل الحديث بمنزلة الواسطة المسيرة للعلماء حتى كاد أن يكون من المراجع المباشرة في معرفة علم الموجودات سواء منها العاقلة أو التي لم تعقل، إضافة إلى بيان ما يتصف به كل نوع منها، ولهذا أحيطت تلك النظرة بالقدسية المنتشرة بين فروع الكلام الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من البعد المادي الذي يدلل على أفعالهم وما تؤول إليه مداركهم التي أدت إلى تفرقهم وأخذهم بالعقائد الباطلة التي لا يمكن أن تستقيم وجوهها بنفس المقاصد العامة التي أرادها الحق سبحانه من فهم كتابه المجيد والتطلع إلى ما فيه من الحكم وكذا الجمع بينها وبين الأسرار التي أخفاها الله تعالى في النظام الكوني الحافظ للكائنات التي تُشعر الآخرين من أن فوق هذا النظام إرادة الله الغالبة التي تُلهم هذه الكائنات وتبين لها الكيفية التي تسمتد منها طرق العيش التي تختلف من صنف إلى آخر، وهذا ما يجعل العلل الناتجة عن تسبيحها تقترب من إظهار الدلائل الفعلية لهذا الوجود.
من هنا نعلم أن الحجة اليقينية لا تقوم أركانها إلا بالرجوع إلى تقييم الدلائل التي أشرنا إليها، باعتبار أن لها وجهاً آخر يعمل على نفي الشريك عنه سبحانه، علماً أن الكبرى لا تكتب لها الاستقامة إلا بإثبات الوجه الثاني الذي يتضمن نفي المثيل أو الشبيه، وأنت خبير من أن الحجج لا تعتمد على إيجاد حقيقة الموجودات أو اختلاف طرق العيش التي تتخذها، وإنما تعتمد على إرجاع أمرها إلى الإيجاد الذي يجعلها تتحدث عن صفاتها وأفعالها، دون أن يكون هناك قولاً ظاهراً أو إشارة إلى ما تريد إيصاله لعامة الناس وهذا ما يجعل أفعالها المستترة هي التي توحي بأبلغ بيان من أن هناك من يسيّر وجودها ويتكفل في بقائها على الوجه الذي يضمن سلامة كل نوع منها، وهذا ما يجعل المعارف الدالة على أصل الموجودات لا تقترن بالجزاء، وإنما يراعى بموجبها تبيان الجزء الأكبر الذي تتم به الحجة البالغة على الذين لا يؤمنون، وتبيان الفرق بينهم وبين العلماء الذين لا تؤثر فيهم الآيات التي تظهر لغيرهم من خلال ما في الكائنات من دلائل، وذلك لأن هؤلاء قد توصلوا إلى معرفة الموجودات وأسرارها جرّاء معرفتهم بالخالق وليس العكس فتأمل.
وبناءً على ما تقدم تظهر النكتة في قوله تعالى: (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون) النحل 68. وكذا قوله: (أو لم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن) الملك 19. وقوله: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون) النور 41. وعند الجمع بين الآيات آنفة الذكر وما تضمنته في
منطوقها أو مفهومها، نصل إلى أن المراد من التسبيح هو إظهار العلم اليقيني الدال على تنزيه الخالق سبحانه، فالأمر لا يحتاج إلى تلفظ أو بيان ما في نفس تلك الكائنات من قول، سواء كان بلغة التفاهم الخاصة بها، أو اللغة التي توصل الإنسان وإن شئت فقل أصحاب الاختصاص إلى حل رموزها، من ذلك يتضح أن النظائر القرآنية تشير إلى أن تعدد المواقف الفعلية لكل كائن لا ترقى إلى إيصال ما في نفسه إلى الآخرين، وإنما يُرد ذلك الأمر إلى لسان الحال الذي علمنا من خلاله أن لتلك الكائنات صوراً علمية خاصة بها، دون أن يكون لها أي نوع من الإدراك الذي تصل بموجبه إلى إظهار ملامحها، باستثناء العقلاء الذين يجمعون بين لسان الحال والمقال.. فتأمل.
فإن قيل: ما هو الدليل الذي يمكن أن نصل من خلاله إلى معرفة لسان الحال لدى تلك الكائنات؟ أقول: التناسق بين أصناف الكائنات وكذا قيامها بالأعمال الفطرية وأداء المهام الخاصة بكل نوع منها، هو الدليل على بيان حالها، وإثبات أن ذلك آية من آيات الله تعالى.
فإن قيل: ما هو الدليل النقلي على أن لسان الحال هو الذي يظهر ما خفي من أفعالٍ لدى جميع الموجودات؟ أقول: أشار الحق سبحانه وتعالى إلى هذا المعنى في كثير من الآيات، كما في قوله تعالى: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) التوبة 17. أي إن أعمالهم التي يقومون بها هي التي تبين شهادتهم على أنفسهم بالكفر، دون أن يكون هناك قولاً منهم أو إشارة. وكذا قوله: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها) الأحزاب 72. وقوله: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف 172. وكذلك قوله تعالى: (فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين) فصلت 11. وقوله: (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله) الحشر 21. وقوله تعالى: (يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد) ق 30.
فهذه الآيات جميعها تبين بل وتشهد على إظهار الجماد لمئاله بلسان حاله دون المقال كما بينا، ومن هنا يمكن أن نصل إلى أن تسبيح الكائنات غير العاقلة، لا يراد منه التسبيح الحقيقي الذي يُفهم من خلال القول وإنما المراد من ذلك هو إظهارها تنزيه الحق سبحانه بواسطة ما أودع فيها من أسرار خلقها التي تدل على وحدانية الصانع، وعلى قدرته وحكمته فيما أفاض عليها من صفات حية وألهمها أداء وظائفها على الشكل الذي قدره سبحانه لكل كائن منها، كما بين هذا المعنى بقوله: (إنا كل شيءٍ خلقناه بقدر) القمر 49. وكذا قوله: ( قال ربنا الذي أعطى كل شيءٍ خلقه ثم هدى) طه 50.
وبهذا يظهر الفرق بين تسبيح المكلفين وبين تسبيح الكائنات الأخرى، علماً أن تسبيح المكلفين قد يستعمل في الحقيقة والمجاز معاً، دون الكائنات الأخرى التي تنزه الله تعالى بواسطة الإلهام الذي يدلل على حسن صنعتها وما أبدع سبحانه في كل نوع منها، سواء كان ذلك من الجمادات أو المخلوقات الأخرى، وهذا ما يُفهم من قوله تعالى: (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيءٍ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليماً غفوراً) الإسراء 44.
هذا ما لدينا وللمفسرين في الآية آراء:
الرأي الأول: قال ابن عاشور في التحرير والتنوير: لمّا أسند التسبيح إلى كثير من الأشياء التي لا تنطق دل على أنه مستعمل في الدلالة على التنزيه بدلالة الحال، وهو معنى قوله: (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) حيث أعرضوا عن النظر فيها فلم يهتدوا إلى ما يحف بها من الدلالة على تنزيهه عن كل ما نسبوه من الأحوال المنافية للإلهية.
والخطاب في (لا تفقهون) يجوز أن يكون للمشركين جرياً على أسلوب الخطاب السابق في قوله: (إنكم لتقولون قولاً عظيماً) الإسراء 40. وقوله: (لو كان معه آلهة كما يقولون) الإسراء 42. لأن الذين لم يفقهوا دلالة الموجودات على تنزيه الله تعالى هم الذين لم يثبتوا له التنزيه عن النقائص التي شهدت الموجودات حيثما توجه إليها النظر بتنزيهه عنها فلم يحرم من الاهتداء إلى شهادتها إلا الذين لم يقلعوا عن اعتقاد أضدادها. فأما المسلمون فقد اهتدوا إلى ذلك التسبيح بما أرشدهم إليه القرآن الكريم من النظر في الموجودات وإن تفاوتت مقادير الاهتداء على تفاوت القرائح والفهوم، ويجوز أن يكون لجميع الناس باعتبار انتفاء تمام العلم بذلك التسبيح.
وأضاف في التحرير والتنوير: وقد مثل الإمام فخر الدين ذلك فقال: إنك إذا أخذت تُفاحة واحدة فتلك التفاحة مركبة من عدد كثير من الأجزاء التي لا تتجزأ (أي جواهر فردة) وكل واحد من تلك الأجزاء دليل تام مستقل على وجود الإله، ولكل واحد من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ صفات مخصوصة من الطبع والطعم واللون والرائحة والحيز والجهة، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة هو من الجائزات فلا يُجعل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر حكيم، فكل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وجود الإله تعالى، ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم، وأحوال تلك الصفات غير معلومة، فلهذا المعنى قال تعالى: (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) انتهى كلام الفخر الرازي.. وأضاف ابن عاشور: ولعل إيثار فعل (لا تفقهون) دون أن يقول لا تعلمون للإشارة إلى أن المنفي علم دقيق فيؤيد ما نحاه فخر الدين.
الرأي الثاني: يقول الالوسي في روح المعاني: (تسبح) بالفوقانية وهي قراءة أبي عمرو وحفص، وقرأ الباقون بالتحتانية لأن تأنيث الفاعل مجازي مع الفصل، وقرئ (سبحت) (له السماوات السبع والأرض ومن فيهن) أي من الملائكة والثقلين (وإن من شيء) من الأشياء حيواناً كان أو نباتاً أو جماداً (إلا يسبح) ملتبساً (بحمده) تعالى. والمراد من التسبيح الدلالة بلسان الحال أي تدل بإمكانها وحدوثها دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدته وقدرته وتنزهه من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث، كما يدل الأثر على مؤثره ففي الكلام استعارة تبعية كما في نطقت الحال. وجوز أن يعتبر فيه استعارة تمثيلية ولا يأبى حمل التسبيح على ذلك. قوله تعالى: (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) بناءً على أن كثيراً من العقلاء فهم تلك الدلالة لما أن الخطاب للمشركين والكفرة لا للناس على العموم، لأنه تقدم ذكر قبائحهم من نسبتهم إليه تعالى شأنه ما لا يليق بجلاله، فإن الله سبحانه وصف ذاته بالنزاهة عنه وبالغ فيه ما بالغ ثم عقبه بما ذكر دلالة على أن كل الألوان شاهدة بتلك النزاهة مبالغة على مبالغة.
ويضيف الالوسي: فلو كان الخطاب مع غير هؤلاء المنكرين وأضرابهم لم يتلاءم الكلام ويخرج من النظام. وقوله تعالى: (إنه كان حليماً غفوراً) تذييل من تتمة الإنكار على الوجه الأبلغ، أي إنه سبحانه حليم ولذلك لم يعاجلكم بالعقوبة لإخلالكم بالنظر الصحيح الموصل إلى التوحيد، ولو تبتم ونظرتم لغفر لكم
ما صدر منكم من التقصير فإنه غفور لمن يتوب. وظن ابن المنير أن هذا التذييل يأبى كون الخطاب للمشركين، قال لأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يتجاوز عن جهلهم وإشراكهم. انتهى.
ومن أراد ما تبقى من رأي الالوسي فليراجع تفسير روح المعاني.
مقالات اخرى للكاتب