من الواضح بأن الهوية هي ما ينجزه الإنسان و يحسن أداءه ، أي ما يصنعه بنفسه و بالعالم ، من خلال علاقاته ومبادلاته مع الغير ، لا ما يتذكره أو يدافع عنه. ومن المعلوم بأن اللاوعي والوهم أو الخداع لها دورها في تشكيل الوعي وقرارات العقل وسير التاريخ وأن المنظومات الإيديولوجية و فلسفات التاريخ قد تكون مصدراً للوعي أو أداة للتثقيف و التنوير ، لكنها قد تكون أداة للتزييف و التضليل.
أما الوحدة الكوردستانية والوفاق الكوردستاني فلا تأتي من العدم ، بل هي نتاج موضوعي وضروري لتكامل الشعب والدولة والمؤسسات الحقوقية والشرعية الهادفة الی بناء الهوية الوطنية ، لا ربط لها بلعبة الوفاق السياسي أو المساومة السياسية. ومن أجل تحقيق الهوية الوطنية الكوردستانية ، لابد من العمل علی مشروع وطني للوحدة و الاتفاق على عقد اجتماعي يتجاوز ويذلل ذهنية التجزئة ونفسية الغنيمة السائدة عند بعض القوى السياسية ولابد من تطوير البعد الثقافي لهذه الهوية في مجال الوطنية والقومية والدين والاجتماع.
في الماضي كانت الأنظمة الإقليمية في المنطقة تؤثر بشكل سلبي على مصير و مستقبل شعب كوردستان ، الذي واجه أقسی أنواع حملات الإبادة الجماعية و الممارسات العنصرية والاستراتيجيات السلطوية الاستبدادية و بشكل عام واجه تحديات جسيمة و لم يكن أمامه خيار آخر سوی الكفاح المسلح لتحقيق مطامحه القومية و الإنسانية المشروعة. أما اليوم فيقوم هذا الشعب بتظهير صورة جديدة للهوية ، معنی و معاشاً ، نظرية وممارسة ، يسهم في إخراجها مخرجين مٶمنين بالوحدة الكوردستانية والعيش المشترك و السلم الدائم ، يملكون قوة و فاعلية غنية ، يكرسونها في سبيل الإنبناء والتكوين والتنمية والتواصل بعيداً عن علاقات مبنية علی النفي والإستبعاد والإزدراء أو مطلقات يقينية أو كليات مجردة و مليئة بمبادیء المفارقة و الأقانيم المقدسة. إنهم لا يهدفون التعامل مع الواقع كنسق محكم أو كرسالة متعالية ، بل يستخدمون التحاور والتفاهم كوسط و التدوال و التواصل كمجال بعيداً عن التعبد للأسماء والنصوص ، يٶمنون بضرورة الأخذ بالخيار الديمقراطي و إحترام قواعد النظام الفدرالي.
الشعب الكوردستاني بدأ بعد جمعه التجارب في الدفاع والسياسة يستوعب المعادلات الإقليمية و الدولية ليرسم خططه التكتیكیة والإستراتيجية بوعي وإدراك ، علی ضوء تلك النتائج التي يتوصل اليها بعد تقييم واقعه و ظروفه الذاتية والموضوعية ليضمن الحفاظ على منجزاته و مسيرته.
إن عولمة الهوية لا تحدث دون إمتلاك للمعرفة أو لمفاعيل علمية واليوم نری بأن الشأن العام لم يعد حكراً علی منظومة خاصة أو نخبة سياسية ، بل هو مجال تداولي يمكن لكل فاعل اجتماعي المساهمة في تشكيله و توسيعه أو الدفاع عنه وذلك عبر الإنخراط في المناقشات العمومية أو بتسليط الضوء علی قضايا الساعة أو تقديم مبادرات خلاقة لحل المشكلات وتدبر الأزمات ، بإختصار يمكننا القول بأن الأحزاب السياسية ليسوا أولی من غيرهم بشأن المجتمع أو الهوية المجتمعية.
بعد عقلنة السياسة نری بأن الفرد يكون قادراً علی تحمل المسٶولية عن نفسه و حريصاً علی استقلالیته بحيث يصنع نفسه عبر المشاركة في تدبر مشكلاته وهذا الفرد لا يقبل الوصاية علیه وعلی حقوقه من قبل أحزاب تريد ممارستها باسم قيم علیا و ضرورات تاريخية.
وعقلنة السياسة يعني إتاحة الفرصة لأهل السياسة أن يديروا خلافاتهم بطريقة عقلانية سلمية تفاوضية مثمرة بعيداً عن التحاور بلغة السيف والمدفع، فمن لا يقوم بإخضاع هويته الوجودية ، سواء أكانت تلك الهوية سياسية أم ثقافية، للنقد و التشريح والتفكيك والتعرية لا يستطيع أن يخرج من مأزقه الوجودي أو يبتكر إمكانیات وجودية يتغير بها عن ما هو عليه أو يغير قواعد اللعبة بینه و بين الآخر.
التحولات في عصرنا هذا هائلة و جذرية وهي شاملة و متسارعة والشبكات الاجتماعية والأسواق الحرة والهجرات الطوعية تعولم الهويات والمجتمعات والأوطان وهي كما تكشفه التطورات الحاصلة في السنوات العشر الأخيرة تبدو أقوی و أولی من العقائد والايديولوجيات. وهكذا نری أنفسنا أمام واقع بلا حدود نهائیة أو هويات متميزة.
وختاماً نقول: من يريد الوحدة الكوردستانية وترسيخ صيغة التعايش والسلم الأهلي بين الكوردستانيين فعليه تشكيل حكومة شراكة ووحدة وطنية ، بعد التعالي عن الصغائر من أجل الوصول إلى تفاهم حضاري، فالموقف الواحد ورص الصفوف والالتزام بالوحدة الكوردستانية ضرورة يجب التمسك بها في حفاظ الأمن و مواجهة التحديات المستقبلية.
مقالات اخرى للكاتب