يعد قطاع الكهرباء من اكثر القطاعات الخدمية حيوية واكثرها هشاشة على مستوى المؤسسات الاستراتيجية التي تعتمدها البلدان في تطوير بناها التحتية.
ولهذا شكل تدمير قطاع الكهرباء في العراق محوراً أساسياً في شل البنى الأرتكازية خلال العمليات العسكرية في حرب الخليج الثانية (إحتلال الكويت)، وما تلاها من فرض حصار إقتصادي وتكنولوجي إمتد لثلاثة عشر عام، استنزف فيه كل الاحتياطى الاستراتيجى من مواد احتياطية وأولية من أجل اعادة بناء المحطات والشبكات الكهربائية المدمرة، والتي قامت بها الخبرات الوطنية بعد ان تضرر 97% من القدرات المؤسسة للمنظومة الكهربائية الوطنية, ليتمكن هولاء (الذين لازال بعضهم يعمل في القطاع) وبجهد استثنائي من اعادة 78% مما تم تدميره، فيما لا زالت هناك الى الان (قدرات مؤسسة) مدمرة لم تستطع الشركات اعادة تأهيلها بسبب توقف مصادر تصنيعها أو توفير بدائلها.
ظلت مدن العراق تعاني من نقص الطاقة الكهربائية بشكل واضح طوال فترة ذلك الحصار، بالرغم من إنخفاض الطلب عليها بسبب التحجيم القسري للقدرة الشرائية للفرد العراقي، والذي أجبرته الظروف المعيشية الصعبة الى بيع مقتنياته لسد رمق عائلته ومنها على وجه الخصوص الأجهزة الكهربائية.
ظل إنتاج الطاقة الكهربائية خلال تلك الفترة لا يتجاوز فيه حمل الذروة 5500)) ميكاواط، مقابل طلب مقنن بحدود (7500) ميكاواط بضمنه الحمل الصناعي الكبير نسبيا، وتبنت الدولة منذ ذلك الوقت إعتماد آلية القطع المبرمج وبساعات تجهيز تتراوح بين(10–12 ) ساعة.
أما الذي حصل بعد العام (2003) فقد إزداد الطلب على الطاقة الكهربائية بشكل تصاعدي ليصل الى الضعف في العام (2010) نتيجة إرتفاع القدرة الشرائية للمواطن خصوصا بعد الزيادة الكبيرة في رواتب الموظفين في العام 2008.
إن اعادة تأهيل وتشغيل المنظومة الكهربائية في عام 1991 أنجز بحشد وطني شاركت فيه كافة قطاعات الدولة بما تملك آنذاك من خزين في المواد الاحتياطية وبدائل محلية، لكن التدمير الحقيقي للمنظومة تمثل في عدم امكانية ادامتها خلال فترة الحصار لنقص المواد الاحتياطية وامتناع الشركات المتخصصة عن تجهيزها. وإستمر الحال على ما هو عليه لحين تفعيل قرار الأمم المتحدة المرقم (661) (النفط مقابل الغذاء والدواء)، وظل دخول المواد الازمة لادامة وتشغيل المنظومة الكهربائية محدودا ومقننا وتحت رقابة صارمة من قبل فرق التفتيش التابعة للأمم المتحدة وبأشراف مجلس الامن الدولي, ما تسبب باستنزاف موارد العراق بتعويضات قاسية لأبقاءه مقعداً لايستطيع النهوض سريعاً تحت طائلة قراراته المجحفة الى يومنا هذا.
جاء التغيير في العام 2003 وطالت عمليات النهب والسلب بعض منشآت قطاع الكهرباء فور إنتهاء العمليات الحربية, فيما بدأت العمليات الإرهابية تستهدف بشكل مباشر قطاع الكهرباء، كونه أهم قطاع حيوي وأكثرها هشاشة وسعة، وبرقعة جغرافية تغطي مساحة الوطن بأكمله، ومنها على سبيل المثال أبراج وشبكات وخطوط نقل الطاقة، فتقطعت أغلب أوصالها وشرايينها، وكانت ذروتها بين عامي (2005 - 2008)، كان إستهدافا منظما وتدميرا موسعا لتعجيز كل محاولات الوزارة لإصلاح ما تضرر، رافق ذلك إستهدافا نوعيا لقياديي وفنيي الوزارة من خلال عمليات الإغتيال.
كان على الوزارة هذه المرة أن تخوض حربا ومواجهات مفتوحة على عدة محاور, وليس جهدا مقتصرا على إعادة بناء منظومة متهالكة، وأمام مشاهد العنف والقتل وتنوع العمليات الأرهابية وإزديادها، لا يمكن أن يتوقع وينتظر من شركات عالمية متخصصة الموافقة على دخول العراق ومشاركتنا لاعادة بناءها، في ظروف تمنع المهندس العراقي بسبب التهديد وخشية التصفية الجسدية من الوصول الى موقع عمله او مخاطر نقل آلية متخصصة من محافظة الى اخرى.
هل علينا التذكير باحداث تلك السنين العجاف يوميا؟، وهل تحمّل السياسيون جزء من هذا العبء الذي عانت منه قيادات هذه الوزارة في مختلف محافظاتنا؟، وهل تحمل الاعلام المرئي والمسموع والمقروء مسؤولية عرض معاناة الوزارة على المواطنين؟.
لقد تحمل قطاع الكهرباء قسوة اكثر من اي قطاع آخر، بل كانت هنالك قسوة معبأة من قبل السياسيين تدخل ضمن المناكفات الحزبية وصراع القوى المتكالبة على السلطة, بالرغم من معرفتهم التامة بمعاناته ومشاكله والصعوبات التي تواجهه قبل غيرهم, فهم يناقشون نقص التخصيصات في الموازنات المالية, وملمين تماما بمسألة شحة الوقود, وينتفضون لإنخفاض مناسيب المياه في حوضي دجلة والفرات لكنهم يتجنبون تدويلها، فيما تستمر دول الجوار بخنق العراق مائيا وابتزازه واستنزافه لإبقائه ضعيفا، وعجزت القيادات السياسية عن ردع هذه التصرفات التي كان قطاع الكهرباء ضحيته الأولى، عندما تسبب انخفاض هذه المناسيب بفقدان انتاج المحطات الكهرومائية والبخارية وعن تجهيز ثلاث محافظات بالطاقة الكهربائية.
وبرغم كل الجهود التي بذلت لبناء مؤسسة (كهرباء) مستقلة غير خاضعة لشروط المحاصصة الطائفية وبعيدة عن تجاذبات الكتل السياسية ومعتمدة إعتمادا كليا على قيادات من التكنوقراط، إلا أن صراعاتها ما لبثت إن إنعكست وبشكل ضاغط على سير عمل الوزارة، وأثرّ ذلك بشكل واضح على تأخير تمويل مشاريع الكهرباء خاصة بعد توقيع العقود الاستراتيجية في نهاية العام 2008, ولم تتمكن الحكومة من تنفيذ إلتزاماتها بسبب إنخفاض أسعار النفط عالميا في العام 2009)) حيث إقتصرت تخصصيات الموازنة العامة للعام (2009) بحدود (الموازنة التشغيلية المعنية برواتب وأجور موظفي الدولة والمصاريف الأخرى) وعلى حساب تقليص الموازنة الإستثمارية وبشكل قاس، مما أدى الى التضحية بالتخصيصات الاستثمارية لتلك المشاريع، وتأخر تنفيذ خطط الوزارة التي استعرضناها في مجلس النواب في شهر شباط من العام (2007) وبالتالي إفشال الوزارة في الإيفاء بوعودها التي قطعتها.
حقائق لابد من التوقف عندها:
• تضمنت خطة الوزارة العشرية التي اطلقت عام 2006)) باضافة قدرات توليدية جديدة تنتهي مرحلتها الاولى في العام 2015, يحقق العراق فيها الاكتفاء من حاجته للطاقة الكهربائية في صيف عام (2013) مع الأخذ في الإعتبار النمو السنوي المستقبلى، على أن يتم توفير التخصيصات السنوية المطلوبة بين (4-5) مليار دولار، مع (ضمان توفير أنواع الوقود المجهز من قبل وزارة النفط من خلال خطة ملزمة للطرفين).
• وقعت الوزارة عقودا استراتيجية (وليست ترقيعية) تكفل نقل العراق نقلة نوعية من خلال تنفيذ مشاريع محطات بخارية وغازية كبيرة مجهزة من قبل افضل الشركات المصنعة في قطاع الطاقة وبسعة (15) الف ميكاواط.
• لم يحصل قطاع الكهرباء على تخصيصات الخطة الاستثمارية كاملة للاربع سنوات (2006-2009) سوى مبالغ مقدارها (6,9) مليار دولار لمشاريع انتاج ونقل وتوزيع الطاقة الكهربائية بضمنها تأهيل وتدريب العاملين.
• لم تتجاوز التخصيصات الاستثمارية للوزارة مبلغ (17) مليار دولار للسنوات (2003-2012) وحسب بيانات وزارة التخطيط وهي الوزارة المعنية بتخصيصات الموازنة الاستثمارية وتبويبها بحسب نوع المشروع ومتابعة نسب تنفيذها المادي والمالي, وليس الارقام الفلكية التي يعلنها بعض السياسيين لأغراض الدعاية السياسية، والتي يرفعون سقوفها كلما اقتربت حمى التنافس الانتخابي، ويتجاهلون متعمدين نوع التخصيص المالي وابوابه سواء ما كان مخصصا للخطة الاستثمارية (أي بناء مشاريع جديدة) أو الخطة التشغيلية التي (تغطي الرواتب والاجور وأعمال الصيانة وكلف الوقود، إضافة الى تسديد ديون القطاع المتراكمة لسنوات ومنذ ما قبل نيسان 2003)!.
• الحقيقة التي نود أن يطلع عليها مواطنينا وسياسينا، أن الفترة التي تولينا فيها إدارة الوزارة بين الأعوام (2005 – 2009) كان نصفها مسرحا عسكريا و الأمن فيها مفقود بمعنى الكلمة، ومع ذلك قبلنا التحدي وقدمنا فيها التضحيات حتى على المستوى العائلي، وبالرغم من ذلك تم اكمال تأهيل وإعادة ربط أوصال الشبكة الكهربائية بشبكة وطنية موحدة من زاخو الى الفاو بضمنها اقليم كردستان ولأول مرة منذ عام (1994) مع إعادة تأهيل محطات إنتاج الطاقة الكهربائية منعاً لتدهورها, ليتسارع اكمال مشاريع الأنتاج المتلكئة القديمة، مع تنفيذ مشاريع جديدة لتصل نسبة زيادة الانتاج بمقدار(47%) في العام (2010) عن العام (2006)، بالرغم من إنخفاض أو توقف إنتاج المحطات الكهرومائية بسبب انخفاض مناسيب المياه في حوضي دجلة والفرات كما أوردناه سلفا, وقد لمس المواطن العراقي التحسن فى تجهيز ساعات الطاقة الكهربائية في الأشهر الاولى من العام (2010) حيث وصل التجهيز الى معدلات تصل (18) ساعة في اليوم في معظم مناطق العراق, والمباشرة بتنفيذ عقود محطات انتاج الطاقة الاستراتيجية.
• ان تأخير تنفيذ عقود المحطات الاستراتيجية كان بسبب تأخر تسديد الدفعة الاولى لها في العام (2010)، بسبب عجز الموازنة بعد انخفاض اسعار النفط العالمية, مما دفع الوزارة الى التفتيش عن تمويل من بنوك عالمية كبنكJP Morgan , وبنك الصادرات والاستيراد الامريكي EXIM bank ومؤسسة الاستثمار الامريكي OPICوالبنك البريطاني HSBC, ولم يتم الحصول على اي تمويل بسبب تقييمهم للوضع السياسي في العراق وعدم استقراريته, كاول شروطهم للموافقة على طلبنا.
• إضطرت الوزارة الى تقديم مقترح باصدار سندات خزينة تحولت بعدها الى حوالات خزينة بسبب عدم موافقة البنك المركزي العراقي وتقاطعات بعض الكتل السياسية في مجلس النواب على اصدارها، وإستغرق هذا الصراع والمراسلات بحدود سنة بين وزارة المالية والبنك المركزي ومجلس النواب للموافقة بشأن اقتراض حوالات خزينة من الارصدة غير المتحركة من المصارف الحكومية العراقية بقيمة (2) مليار دولار، وهو ما تسبب بتأخير خططنا بتوفير الكهرباء لسنة أخرى عن الجدول الزمني.
• إضافة الى سلسلة من عقبات اخرى ساهمت في تأخير تنفيذ العقود, منها حصر الاعتمادات المالية لتنفيذ عقود المشاريع بالمصرف التجاري العراقي (TBI) الذي يدعوه البعض بعنق الزجاجة لكبر حجم التعاملات مع هذه المؤسسة، حيث لا يمكن اعتماد مؤسسة مصرفية واحدة تمر من خلالها كافة عقود الدولة مهما كانت كفاءتها، وفي مرحلة حرجة أحوج ما يكون العراق فيها الى اختصار الزمن وتذليل العقبات للاسراع في عملية بناء الدولة الحديثة وارساء بناها التحتية، لذلك كانت إجراءات فتح الاعتمادات لهذه العقود تستغرق اشهر عديدة، مع التذكير أن هذه المؤسسة المالية قد وضعت من قبل سلطة الاحتلال في العام 2003 كبديل عن ثلاث مؤسسات مصرفية عريقة هي (مصرف الرافدين ومصرف الرشيد والبنك المركزي العراقي) التي طالما عملت بآلية كفوءة في التعاملات المالية.
• يضاف الى كل ما تقدم، كانت هناك سلسلة من الإجراءات الرقابية تستند الى إخبارات كيدية، تحولت الى أحدى أدوات تعطيل الإجراءات التعاقدية للمشاريع، ليس لسبب رقابي بحتْ، بقدر ما هي مرتبطة بأسباب تنافسية أو هي تخفي نيات مبيتة لإبقاء العراق متراجعا.
بعد إستعراض ما تقدم يحق لنا أن نتسائل : هل بهذه السياسات وبهذا التعامل ووسط هذه الظروف كان ينتظر منا مواطنينا أن ننجز مهامنا؟
خاتمة :
هناك أكثر من تساؤل يدور حول (التظاهرة) التي خرجت في صيف عام 2010 في البصرة تحت عنوان المطالبة بتحسين واقع الكهرباء، هل كانت تلك الإحتجاجات عفوية ومعنية بحل نهائي للأزمة؟ وإذا كانت كذلك، فلماذا توقفت؟ هل كان توقفها ناتج عن تحقيق مطالبها؟
لقد مر على تلك التظاهرة ما يزيد على ثلاث سنوات دون تحقيق المطالب التي خرجت من أجلها، ما يجعل المهتمين من ذوي الشان يوقنون تماما أنها خرجت بنيات أخرى, والدليل على ذلك أنها تسببت في تأخير تنفيذ المشاريع الاستراتيحية وإنحرافها عن برنامجها الزمني من خلال تبني مشاريع ترقيعية وإعتماد شركات غير مؤهلة (إتضح فيما بعد أنها وهمية)!!.
لقد وضعت قيادة الوزارة في العام 2006 الأسس السليمة لبناء قطاع كهربائي حديث بالإعتماد على التكنولوجيا المتقدمة في المشاريع الجديدة المجهزة من أرقى شركات صناعة الكهرباء في العالم، لكي نبدأ بقطف ثمارها في أواخر العام 2011 ولينتهي العراق من أزمته نهائيا في العام 2013.
كنا صادقين أمام الله وأمام شعبنا وعملنا بكل جد ومثابرة وبروح المسؤولية الوطنية بعيدا عن التحزب والولاءات لأي جهة كانت، كان ولاءنا الوحيد للعراق وحسب، غادرنا الوزارة لتنظم هذه المؤسسة العريقة من بعدنا – وبكل أسف - الى قافلة المؤسسات الملحقة بالمحاصصة الطائفية، فيما يتسابق المسؤولون اليوم في مباراة (قص الشريط) للمشاريع الاستراتيجية التي باشرنا نحن بها ولكن ..... بعد تأخير إمتد لعامين نتيجة الصراعات والمنافع الجهوية الضيقة على حساب مصالح الوطن والتي كان فيها المواطن هو الخاسر الأكبر.
* وزير الكهرباء الاسبق
مقالات اخرى للكاتب