لا أدري إن كان أحرى بروحي أن تتوجع وهي ترى خيبتها متجسدة في فيلم وثائقي، أقول روحي وأنا أشير لأرواح من أظنهم يشبهونني في حساسيتهم إزاء بلدهم، هذا البلد المجروح، الدائخ من فرط ألمه. لا أدري، قلت، وأنا أتابع فيلما في "البي بي سي" عن عراق السنوات العشر المنصرمة، وهو عمل رفيع يحكي قصتنا بما أنزلت، بكل غرابتها وتعقيداتها، بكل وضوحها وغموضها، وقبل ذلك، بهمس مكاريدها وصراخ ثوارها وفحيح خونتها.
تابعت الفيلم ليشتد حزني، فهذا هو صديق العراقيين سيرجيو دي ميلو يقتل باكرا، وذاك هو محمد باقر الحكيم يتشظى قبل أن يلتئم خطابه. لا زلت أتذكر الليلة الأولى بعد مقتله، لكم كانت السماء هادئة على غير عادتها تلك الليالي. يومها تساءلت - هل تراهم ارتعبوا من القادم وصمتت بنادقهم؟ أعني هواة العنف الصغار الذين لم يكونوا ليتوقفوا عن إطلاق النار في الليل، إلا في تلك الأمسية الحزينة حيث خيّم الهدوء وتردد السؤال هلعا في السماء: ما الذي ينتظرنا يا ترى؟
أجل، فيلم "البي بي سي" أعاد عليّ أسئلتي وجعلني أغرق في مونولوج داخلي طويل. قلت - يا إلهي كم كنا "شعبيين" ونحن نستقرئ مستقبلنا ومستقبل أطفالنا بعد ربيع ٢٠٠٣! كنا نعتقد أن زوال نظام صدام سوف يصنع عراقا جديدا، بل إن مصطلح "العراق الجديد" بدا وهو يشيع على ألسنتنا وكأنه بديل لـ"العراق العظيم" الذي شاع زمن صدام. كنا نظن أن كل شيء سيتغير، مدننا، شوارعنا، وجوهنا، ملابسنا السملة، قصائدنا السوداوية وحتى التماعة أحذيتنا. ظننا ذلك منطلقين من استقراء شعبي ساذج للمستقبل، استقراء مبني من معارفنا حول الماضي أو لنقل أوهامنا عنه؛ المقدمة بسيطة جدا وتفيد أنه بما أن صدام كان طاغية وعراقه كان سجنا، فإن مجرد زواله يعني حلول حاضر مختلف ملؤه الحريات والجمال والأحلام السعيدة. هكذا فكرنا كتلاميذ المدارس ورحنا نقنع أنفسنا أن الزمن لن يعود إلى الوراء، ان المستقبل يبنى على معطيات الماضي ليتجاوزه لا ليكرره أو يعيد إنتاجه.
كانت أحلامنا كبيرة وعقولنا صغيرة. كنا متحمسين منتشين لدرجة أن أول انفجار كبير جرى ببغداد بدا كواقعة خارج الإطار. توهمنا أن الحدث لن يعكر صفو دجلة وهو لا ينتمي لحاضرنا قدر ما هو شظية تائهة من ماض بعيد انقطعنا عنه، كان الانفجار رشيقا كطلقة صياد خائب، مجرد طلقة "تايهه" لن تتكرر أبدا. أرواحنا الطيبة أوهمتنا بذلك فصدقنا. ثم ما هي إلا أسابيع حتى تكررت الواقعة ثم تكررت وتكررت. وكعادة تلاميذ المدارس، قلنا، أيضا وأيضا وأيضا، انها عبث لن يعيق الزمن عن التغير باتجاهنا، نحن الحالمين بـ"العراق الجديد". ثم بمرور الأعوام، وجدنا أنفسنا ندور في اللعبة الموجعة؛ هم يقتلوننا ونحن نبتسم، يفجرون رؤوسنا ونحن نهزها ونقول - لا ضير، ما هي إلا شظايا من مكان ما خارج إطارنا، لا ضير، فالزمن زمننا والبلد صار لنا رغم أنف الماضي. خدعنا أنفسنا وانسلت الشهور من بين أيدينا كخيوط طائرة ورقية تحلق بعيدا باتجاه الجحيم، ثم بعد أربعين فصلا، ها نحن نرى أنفسنا في الفيلم فنبكي، نرى بلدنا نهبا للموت، تسرح على أرضه صراعات عمرها من عمر نوح. ها نحن نرى أنفسنا جثثا تمشي بالمقلوب وتشرب الشاي مخلوطا بالكافور. متى يتوقف فيلمك أيها العراق التائه إذن؟ متى تصل طلقتك لمستقرها وننتهي؟ متى تكف حدبتك عن شرب الدم؟ متى يا إلهي؟.