لازال فكر الشهيد محمد الصدر(قدس) يتعرّض لظُلمِ الباحثينَ وإهمالِ المفكرينَ وقد يكون هذا لأسبابٍ عديدةٍ لا أُريدُ الخوضَ فيها ولكن الذي يهمُني هو إثارة بعض الأمور المهمة التي تميّز بها فكر الشهيد محمد الصدر(قدس) آخذاً بنظر الإعتبار البون الشاسع بين عقلي القاصر المقصّر وفكر الشهيد محمد الصدر(قدس) وقد تكون النسبة بمنزلة الصفر ولكن على المرء أن يسعى بمقدار جهده وليس عليه أن يكون موفقاً..
لإن التوفيق من الله سبحانه وتعالى..
وعلى العبد أن يكون سعيه مخلصاً..
في بحث (نظام الأطروحات في فكر السيد محمد الصدر(قدس)) ذكرتُ هناك أن الشهيد محمد الصدر(قدس) كان ينتهجُ نظام الأطروحات في تأليفه وتفكيره!!! وهذا النظام له ثلاثة أساليب وأشكال ولا بأس أن أذكُرها إختصاراً فالأساليب هي:
1. أسلوب الأطروحات القائم على أساس مبدأ(إذا دخل الإحتمال بطل الإستدلال) فالأطروحة في هذا الأسلوب تمثل الإحتمال الدافع للإستدلال.
2. أسلوب الإطروحات القائم على أساس ملئ الفجوات والفراغ المعرفي الناتج من عدم توفر الدليل فتأتي الأطروحة أو مجموعة الأطروحات بديلاً عن الدليل المفقود.
3. أسلوب الأطروحات بلحاظ فكر الشهيد محمد الصدر (قدس) نفسه ودرجات اليقين العالية التي بلغها بحيث تصبح جميع إستدلالات العلماء الآخرين بمنزلة الأطروحة بالنسبة للسيد محمد الصدر(قدس) نفسه..
وهذا ممكن وغير مستحيل ما دام اليقين غير محدد بدرجة واحدة وأستطيع القول أن اليقين أيضا لا متناهي الدرجات فتكون الدرجات الأدنى من اليقين هي بمنزلة الأطروحات بالنسبة الى الدرجات العُليا وهكذا..
ونلاحظ إن منهج الأطروحات متعدد الأساليب والأشكال وهذا يؤدي الى المعنى الذي دائماً يذكره الشهيد محمد الصدر(قدس) ويعبّر عنه أنه باب ينفتح منه ألف باب..
وأستطيع أن أعطي مثالاً بسيطاً يفهمه الكثير من الناس!!!!..
لو شبّهنا العقل بكاميرة التصوير فالكاميرة تلتقط الصورة من زاوية معينة ولكي تكون الصورة متنوعة يحتاج الأمر الى كاميرات عديدة وبالتالي تحتاج الى المخرج الذي يُدير عملية التصوير عن طريق توزيع المصورين ووضعهم في زوايا متعددة..
إن فكر الشهيد محمد الصدر(قدس) أو بالأحرى طريقته في التفكير لا تقتصر على زاوية بل هو يفكّر وكأنه مخرج وتحت يده مئات الكاميرات والمصورين..
وهذا الشيء يلمسه كل من أطّلع على مؤلفات السيد محمد الصدر(قدس) أو حضر وسمع دروسه أو خطبه.!! بل من المستطاع القول أن المحظوظ من قرأ للسيد محمد الصدر(قدس) بتدبّر وإمعان لأنه من حيث يشعر أو لا يشعر سوف تتسرب الى عقله حرية التفكير وإلانفتاح العقلي وغربلة جميع المعلومات والمرتكزات الثقافية التي حصلت من قراءاته سابقة....
إن فكر الشهيد محمد الصدر(قدس) يُعطي للمعلومة حقها من حيث تقييمها وتمحيصها بأسلوب منقطع النظير.. وأستطيع القول أن هذا الأسلوب الفريد في التفكير الذي يمثل مدرسة وإتجاه جديد هو من وحي العصمة التي بلغها السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) وأعني العصمة الثانوية والتي هي ليس حكراً على أحد بل هي متاحة للجميع ولكن بشرطها وشروطها..
إن نظام الأطروحات بأساليبه المتعددة يوفّر المناخ الصحي المناسب للتجرد والموضوعية فالذي يريد أن يتحلى بأقصى درجات الموضوعية والتجرد فعليه أن ينهج هذا الأسلوب الفريد!!!!..
والشيء الآخر الذي يمكن الإشارة إليه أن المفكّر والمثقف يشعر بالإفلاس حينما يقرأ مؤلفات السيد محمد الصدر(قدس) وسبب ذلك لا يحتاج الى تفلسف بل هو ما أوضحته فيما سبق من التركيز على زاوية نظر واحدة وإهمال الزوايا الأخرى وهذا الأسلوب الأحادي في التفكير ليس خاصاً بالمفكرين بل هو صفة عامة يتصف بها جميع المسلمين والعرب إلا من رحم ربي!!!!.. والدليل على ذلك إننا في الحوارات وإبداء وجهات النظر كأنما في ساحة معركة أو حلبة قتال يتمسّك المحاور بوجهة نظره وعدم قبوله لوجهة النظر الأخرى بل يؤدي الأمر الى الصراخ وتبادل الشتائم وجرح العواطف وخدش المشاعر وكأنها حلبة ملاكمة ننتظر فيها الضربة القاضية متى تحصل وفي أي جولة..
مع إن وجهة النظر تمثل أطروحة من الأطروحات وهي لا تغني صاحبها ولا تشبعه من جوع بل تؤدي الى إنكماش المعرفة وإنكماش المفكّر نفسه!!!...
بقي شيء آخر أود الإشارة إليه إن السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) طبّق الإحتمالات على نظام الأطروحات فكثيراً ما نجده يوزع الأطروحات على أساس الإحتمالات أقصد مبدأ حساب الإحتمالات.. حتى الرسالة العملية كان يعرض فتاواه على أساس الإحتمالات بمعنى أن الأسئلة والمسائل والموضوعات يكون عرضها وفقاً لفضاء الإحتمالات ويكون الجواب عليها جميعاً وعدم إستثناء أي إحتمال وهذا ما عجّز عنه كبار الفقهاء وهو كافٍ في إثبات أعلميته في الفقه والأصول كما صرّح هو بذلك..