ما زال بعض اجزائها يحتفظ بذلك التراث الذي كانت عليه من أيامها الخوالي لكنما الأزمنة غيرتها، غيرت الكثير من ملامحها وتضاريسها وجعلت الحنين إلى الماضي يتوهج في نفوس كبار السن، خاصة الذين يجدون في المكان جنة، فيما الذين يسكنونها يحملون اسمها لقبا لهم.
يمكن ان ابدأ الحديث عنها وأنا أرنو إلى الماضي البعيد وأقرأ في أهمية هذه المحلة البغدادية التي يعود تأريخها إلى القرن السادس الهجري، فقبل مئة عام مثلا كانت لبغداد ثلاث بلديات هي الكرخ والرصافة و.. باب الشيخ، وللحضرة الكيلانية.. ساعتها التي كانت ضمن أفضل ثلاث ساعات في بغداد،
وقد رفعت القديمة وحلت محلها ساعة نصبت بعد تشييد برج خاص لها سنة 1898، وقبتها البغدادية تعد من اعجب القبب في الشرقين الأدنى والأوسط بناها اسطة (كرز) وهو من أشهر اسطوات البناء في بغداد، فضلا عن ان أهل بغداد كان لهم نظام معروف بزيارة مراقد الأولياء الصالحين حسب أيام الاسبوع ومنها كان يوم الثلاثاء مخصصا لزيارة مرقد الشيخ عبد القادر، وفي ذاكرتي احتفظ لها باشياء كثيرة فيما نظراتي التي تتطلع اليها تعانق أشياء جديدة، ثمة فروقات عديدة، أذكر حينما كانت تأخذني أمي معها، أوائل السبعينات، لزيارة أمها الساكنة في باب الشيخ، كنا ننطلق إليها من الباب الشرقي ومن ثم محلة فضوة عرب التي ترسم شكل القوس صعودا، كل شيء تراثي.. من الدرابين الضيقة الى الشرفات والشناشيل والخشب والزجاج الملون الى البيوتات المتلاصقة الصغيرة، كنت أشم رائحة غريبة من هذه التداخلات العجيبة، رائحة تختلط فيها الأشياء كلها لاسيما رائحة المكان المعتق، وذلك المجرى الصغير للماء الذي ينحدر الى البعيد، كان يبهرني منظر النسوة الجالسات أمام بعض الأبواب، كنت أحدق في الغرف الصغيرة بسقوفها الخشبية وأبوابها وشبابيكها الخشبية وأتأمل الأثاث البسيط، وانظر باحة الدار الوسطية المعبدة بقطع الكاشي المتآكل الذي تركد قطرات الماء في الحفر الصغيرة فيه، أشعر بالدهشة وأنا أدخل من دربونة وأخرج من دربونة، مازلت أسمع كلمات جدتي من انها لا تستطيع مغادرة باب الشيخ لانها لا تستطيع ترك (ابو صالح) كما كانت تسمي الشيخ الكيلاني وان أجمل ما عندها حينما تذهب الى الحضرة الكيلانية وقت الغروب وتشاهد الناس تتبارك بالشيخ لاسيما من جنسيات غير عربية وتسمع لهجات غير محلية.
كل شيء تغير !!
هناك كنت أتوقف كثيرا عند الدرابين التي تتلاصق أعالي بيوتها، ما زالت الرائحة الغريبة تملأني، رائحة كل شيء هناك بنكهة تجعل طيور الحنين تحلق عاليا، حيث لا مساحات بين الأشياء، وأمضي لاقف أمام الباب الكبير للحضرة الكيلانية، لكنني الان لا أرى الا فراغات لا تشبه ما كانت عليه المحلة، وكما يقول أبو حيدر الكناني، أحد سكان المنطقة ان كل شيء فيها تغير، وحين حاولت تحفيز ذاكرته قال : كان شارع الكفاح هنا باتجاهين الى حد الثمانينات وكانت تسير فيه سيارات الخشب والربل، لكن الان انقطع والسير فيه (عكس السير)، هناك تسميات للدرابين مثلا :هذا عكد الاكراد وهناك دربونة الجنابيين وهناك دربونة البستان، وأكبر مساحة للبيوت 150 مترا وهناك أصغر بكثير وهناك مركز الشرطة الذي تم هدمه، وكانت هناك مقهى يلتقي فيها المقريء طالب السامرائي وعبد الستار الطيار.
أبوحيدر تأسف لواقع المحلة، فقال: كان الشارع يزهو، كل شيء في السابق جميل وحتى الحكايات التي نسمعها من كبار السن فيها حكمة وفائدة الان المقاهي (اراكيل) ودخان وسوالف لا فائدة فيها، كل شيء تغير.
باب الأزج
محلة باب الشيخ هي جزء من محلة قديمة جدا اسمها (باب الازج) تعود الى العصر العباسي وقد كانت تعد مدينة بنفسها، وتسمى (باب الحلبة) لانها قريبة من حلبة سباق قبل انشاء سور بوشر بانشائه في عهد الخليفة المستظهر 1094 ـ 1118، وقد جدد الخليفة الناصر لدين الله اقساماَ من السور ثم جدد باب الحلـبة، وتؤكد المصادر التأريخية ان برجاَ انشيء فوق الباب، عرف في العهد الأخير بباب الطلسم، ويقال ان السلطان العثماني مراد الرابع دخل منه عند فتح بغداد سنة 1048 ـ 1638 ، فاطلق عليه اسم (برج الفتح) الذي بقي قائماَ الى سنة 1917 حيث نسفه الأتراك عند خروجهم من بغداد.
الملاية الضريرة
ويمكنني وأنا اقرأ عن تأريخها ان أغمض عيني واتخيل ما كان يحدث قبل نحو مئة سنة في باب الحضرة الكيلانية، في الباب الشمالي من صحن جامع الحضرة الكيلانية تحديدا حيث يطل الناس على ذلك المشهد اليومي الرائع، حيث جموع النسوة والبنين والبنات والعجائز والشيوخ والأطفال يتجمهرون أمام الباب لتخرج عليهم الملاية والقارئة المصرية الضريرة سكينة حسن، وقد كانت حديث الساعة في بغداد، ويضيق المكان بتلك الحشود من الناس على سعة الساحة الفسيحة أمام خفر شرطة باب الشيخ قبالة الحضرة الكيلانية، وكانت هذه الملاية قد اتخذت من احدى الغرف والاواوين في صحن جامع الشيخ منتجعا لها ومقر سكناها.
اعتادت ان تخرج من الجامع الساعة التاسعة صباحا وتعود اليه في الساعة الرابعة عصرا تجوب ارجاء بغداد وأسواقها تنشد القصائد الدينية والمدائح النبوية بصوتها الساحر الآخاذ وتنهال عليها هبات المحسنين من أهل الخير والجود، تطلع فتستقبلها حشود الناس بالهتافات والصلاوات والتكبير والتهليل ويتقدم نحوها رجل فيقف أمامها فترفع يدها اليمنى لتضعها على كتفه وهو والدها ويسير بها يدليها الطريق بين الزحام وتتبعها الحشود التي تردد وراءها في موكب تمر به كل مناطق بغداد وتستغرق رحلتها اليومية نحو سبع ساعات.
الشيخ عراقي الأصل
والشيخ عبد القادر الجيلي أو الجيلاني أو الكيلاني (470 هـ - 561 هـ)، هو أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله، يعرف بـ "سلطان الأولياء"، وهو إمام صوفي وفقيه حنبلي، لقبه أتباعه بـ "باز الله الاشهب" و"تاج العارفين" و"محيي الدين" و"قطب بغداد". وإليه تنتسب الطريقة القادرية الصوفية، ويختلف المؤرخون في أصله، ويمكن الاشارة الى ما ذكره العلامة مصطفى جواد :(ان المصادر التي تذكر ان الشيخ عبد القادر مواليد كيلان في إيران، مصادر تعتمد رواية واحدة وتناقلتها من دون دراسة وتحقيق، أما الاصوب فهو من مواليد قرية تسمى (جيل) قرب المدائن، ولا صحة كونه من إيران أو ان جده اسمه جيلان)، وهو ما اكده العلامة حسين علي محفوظ في مهرجان جلولاء الذي اقامه اتحاد المؤرخين العرب سنة 1996.
وحسب العلامة حسين أمين ان جامع الشيخ عبد القادر الجيلي في الاصل مدرسة ابتناها للحنابلة أبو سعيد المبارك بن علي المخزومي الفقيه الحنبلي المتوفى سنو 513هـ / 1119م وقد جددها ووسعها تلميذه الشيخ عبد القادر المتوفى سنة 561/1165م وهو مدفون فيها.
حي الكفاح 123
تقع محلة باب الشيخ في الجنوب الشرقي من بغداد وفي القسم الشرقي من نهر دجلة، يحدها من الغرب شارع الشيخ عمر ومن الشرق شارع الكفاح ومحلة الصدرية ومن الجنوب محلة فضوة عرب ومن الشمال شارع الهادي الذي يؤدي الى مرآب النهضة من تقاطع الفردوس، محلة صغيرة تشبه المثلث حيث قاعدته شارع الفردوس، ذهبت اليها أكثر من مرة، صباحا ووقت المغرب، هناك اختلافات كبيرة بين الوقتين، فالصباح هادىء قليل المارة والعابرين والمقاهي شبه خاوية والحضرة الكيلانية المحاطة بكتل الكونكريت المسلح تضرر بها مشهد سياجها الجميل، فيما كان شارع الكفاح عاديا ولا توجد في نهر الشارع سيارات كثيرة فيما اغلب الباعة يزدحمون على الأرصفة، ولكن المساء غير ذلك، فالمكان يعج بالناس العابرين والجالسين في المقاهي وما أكثرها وجلها كانت خارج امكنتها ونزلت الى نهر الشارع، لكن لا أثر لزحام لان السيارات قليلة جدا فالشارع مغلق في تقاطع (الصدرية شارع الفردوس وشارع الكفاح)، كما ان الباعة يتمتدون على طول الشارع فيما الاغلبية يزدحمون بالقرب من مرقد الشيخ، وحين دخلت الدرابين استغرب ان اللوحات على اطرافها مكتوب عليها (حي الكفاح/ محلة 123) اذ لا وجود لاسم (باب الشيخ)، وكان البناء عشوائيا كما يبدو لان الدرابين تتجه اتجاهات مختلفة ومنها مغلقة، فيما تحولت العديد من البيوت الى مصانع وغصت شوارعها بالزيوت والأوساخ وبدا تأثر ابنيتها التراثية بالزمن، وهناك تعرفت على مكان الساقية التي كانت تزود المرقد بالماء بعد ان تسحبها من نهر دجلة بواسطة كرد، وهذه الساقية محفورة تحت الأرض ومزفتة تزفيتا متقنا، وقد سميت محلة رأس الساقية نسبة الى هذه الساقية الممتدة من نهر دجلة الى جامع الشيخ، كما حدثني العديد من الناس عن معلم اثري تأريخي هو طاق (طاك باب الشيخ) الذي بني قديماً على شكل نفق تعلوه بناية قديمة ويبلغ طوله نحو عشرة أمتار وعرضه خمسة أمتار، ويوصل هذا الطاك محلة فضوة عرب بشارع الكيلاني الذي يربط شارع الكفاح بشارع الشيخ عمر، وسمعت الكثير من حكايات الخوف عنه لكنهم يتأسفون انه هدم عندما تم قص المنطقة لانشاء الشارع بين الخلاني صعودا الى ما تحت طريق محمد القاسم السريع. واشار اغلب المتحدثين الى ان المنطقة تعبت فيما يراها البعض (جنة) للعلاقات الجميلة بين ناسها، خاصة بالنسبة للذي تعود عليها ومنهم حقي اسماعيل العزاوي، من مواليد باب الشيخ 1955، الذي ابتدأ حديثه بالقول: باب الشيخ هي عاصمة الدنيا، لانها قبل كل شيء منطقة مقدسة وناسها مؤمنون وشرفاء، لا يوجد شيء فيها لا يعجبني، هي المنطقة الرئيسة ويمكن اعتبار منطقة (فضوة عرب) تابعة لها والصدرية وعكد الاكراد والخندق (الخندك) وعكد الجري، وهذا الشارع كانت منطقة المشاهدة والتسابيل وتم قصهما ليكون الشارع الجديد، وأهم شيء ناسها وان انتقل منهم الكثير فمنهم من غادر الى الخارج بسبب تعسف النظام السابق ومنهم من وفقه الله واشترى بيتا في أماكن أخرى، اما الذين جاءوا الى المحلة فنحن (لا نطالسهم) لكنهم يلتقون ببعضهم البعض.
نظرة ولكن ..
باب الشيخ.. لم تنل اي اهتمام منذ سنوات، هذا ما كان يقوله اهلها، فيما بعض الصناعيين يؤكدون انها تتعرض للاندثار وقد اصبحت معامل وورشا صناعية، وتمنوا ان تنشيء الدولة مدنا صناعية خارج المحلة واعادة الوجه التراثي الجميل لها.
مقالات اخرى للكاتب