العدس من أهم وأغنى البقول وأكثر النباتات الغذائية ، التي أرتبطت منذ القدم بالطبقة الفقيرة في الكثير من بلدان العالم ، لرخص ثمنه وقدرته على إشباع عدد كبير من الجائعين ، وتوفيره لذوي الدخل المحدود، ما يحتاجون إليه من بروتينات وحديد وطاقة ، ما جعل منه أفضل الوجبات الشعبية التي لها رمزية في الثقافة المغربية لإرتباط إستهلاكه – في فصل الشتاء- ارتباطا وثيقا بالظريفة المادية المزرية للأفراد والجماعات التي لا تملك المال الكافي لشراء اللحوم،
ويروي المؤرخون القدامى بأنه كان صحبة البصل طعام الفلاحين الفقراء في مصر الفرعونية قبل 5000 سنة كما تدل على ذلك الرسوماته التي وجدت داخل المغارات وقبور الفراعنة وعلى جدران المعابد في سويسرا ، وقد زرعه الهنود مند آلاف السنين ، وزرع في دول الشرق الادنى وفي حوض البحر الابيض المتوسط في فرنسا واسبانيا وايطاليا ورومانيا والتشيلي ومصر التي يعد فيها اليوم المحصول الرئسي .. وقد ورد ذكره في التوراة في قصة تنازل سيدنا عيسى عليه السلام عن زعامة العائلة لأخيه يعقوب عليه السلام ، مقابل وجبة عدس كان يرغب في تناولها ، كما جاء ذكره في القرآن الكريم ، في قصة بني إسرائيل الذين ضجروا من أكل ما أنزل الله عليهم من الطعام الطيب النافع الهني السهل المثمتل في"المن والسلوى" ، ومطالبتهم باستبدالهما بالبقول والفول والعدس الذي قال فيه سبحانه وتعالى : "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ" ، سورة البقرة .
فما الذي حدث في الآونة الأخيرة لـهذه الأكلة الشعبية التي كانت تسد جوع من يعيشون الفقر والبؤس والهشاشة اليومية ، والتي أسماها الرسول صلى الله عليه وسلم " مأكول الصالحين " كما ورد في الحديث الشريف الذي رواه الإمام ابن القيم في الطب النبوي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: “إنه يرق القلب، ويعزز الدمعة، وإنه مأكول الصالحين"
ولماذا إرتفع ثمن الكيلو الواحد من هذا المكون الأساسي لمائدة لفقراء المغرب 30 إلى درهم ؟ بعد أن كان إلى الأمس القريب باستطاعة غالبية الأسر المعوزة توفيره -تعوضا عن اللحوم التي هي حكر على الاغنياء - بأقل من نصف ثمنه اليوم و قبل أن تعلن الأمم المتحدة عن اختيار العام 2016 ليكون العام الدولي للبقوليات، وليتحول العدس إلى طعام يزاحم الأغنياء الفقراء .
لاشك أن هذا الإرتفاع الصاروخي في سعر العدس ، هو الذي أثار ما عرفته الساحة من ردود الافعال المختلفة ، بين من وجدها زيادة متوقعة في ظل قلة الأمطار والعوامل المناخية الغير مساعدة ، وبين من رآها زيادة غير مبررة وتساهم في الضغط على الشعب أكثر عبر حرمانه من المواد الغذائية الأساسية ، وبين من اعتبر – وهي الغالبية العظمى- أنها استهداف مباشر وضرب سافر لقوت شريحة عريضة من المواطنين الفقراء المقهورين ، بينما عد بعض الظرفاء لجوء الحكومة للرفع من ثمن تلك البضاعة المقترنة بمعيش الفقراء مجرد خطوة للحفاظ على صحتهم من الإكثار من استهلاك تلك المادة الغنية بالحديد ، وحتى تصبح من المواد الممتنعة عنهم ، فيقللوا من تناولها رأفة بصحتهم ، لما في الإكثار من تناول مركبات الحديد دون مراقبة ومتابعة من خلل في التوازن الناتج عن زيادة الحديد عن حدود معينة ، كما هو الحال مع نقصه كذلك ، وذلك لأن الحكومة ذات المرجعية الإسلامية تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى خلق كل شيء بمقدار –إلا في عدد الوزراء المشكلين لها-مصداقا لقوله تعالى " وأنا كل شيء خلقناه بقدر " سورة القمر ، وتعرف بأن الشييء إذا زاد عن حده إنقلب إلى ضده ، ولأن زيادة الحديد في الجسم أو ما يعرف باسم الهيموسيدروسيس تحدث نتيجة لزيادة الحديد عن قدرة الكريات الحمراء والعضلات على حمله وتخزينه، فيبدأ هذا الحديد الزائد بالترسب في أعضاء الجسم ، ويسبب عدة أعراض حسب العضو المترسب فيه ، ففي الرئتين يسبب ترسب الحديد فيها حدوث نزف منتشر في الحويصلات الرئوية ، وكذلك يمكن ان يترسب هذا الحديد الزائد في الكبد مسببا قصور الكبد ، أما ترسبه في الكلية فيترافق مع حدوث انحلال الهيموغلوبين الليلي الدوري ، ويمكن أن يترسب هذا الحديد الزائد في البنكرياس مسببا الداء السكري وقصور البنكرياس عن أداء وظيفته ، أما ترسبه في الجلد فيؤدي إلى حدوث تصبغات في الجلد والذي قد يتطور إلى حدوث نوع من أنواع الأكزيما أو الالتهاب الجلدي المسبب حكة دائمة ، وكذلك ترسبه في الدماغ فيمكن أن يؤدي إلى حدوث نزيف في الدماغ.
لكن ، ومع الأسف الشديد، أن الكثيرين لم يسوعبوا رقة قلب الحكومة ورأفتها على الفقراء ، فقابلوا مبادرة الزيادة في ثمن العدس ، بردود أفعال قوية ، وبزوبعة عارمة من الغاضب والسخط والتنديد ، وخاصة منهم بعض الفيسبوكيين الذين إعتبروا ذلك إستقصادا سافرا لوجبة تسد رمق "الدراوش" و أبناءهم وعائلاتهم ، والتي يفترض ألا تطالها أي زيادة مهما كان الدافع إنساني .
ـوأختم حديثي حول العدس الذي أصبح أكلة الطبقة المحظوظة ، أنه سيكون على الفقراء أن يبحثوا لهم عن أكلة شعبية أخرى يسدّون بها الرمق ، ويتنازلوا عنه وما فيه من حديد للذين "طلع ليهم اللحم فالراس" وقرروا التخلي عن منتجاته والرجوع للتغذية النباتية "البقوليات" وعلى رأسها العدس ، كما رصدت ذلك الأمم المتحدة وفقا لتقرير نشرته صحيفة "دي فيلت" الألمانية.
مقالات اخرى للكاتب