تدرج العراق من حضارة الطابوق المفخور والبيوت المهندسة وعلم اللغة والرياضيات والالهيات الى حضارة بيوت الطين والخيام والقصب والبردي ثم عاريا في ملاعب كرة القدم او هاربا شحاذا في بلاد الغرباء، دفنت حضاراته تحت الارض وانقطع عن لغته وجذوره القومية، ليس لاتوجد اجوبة فقط انما لاتوجد اسئلة، والسؤال هو لماذا سار العراق عكس حركة التطور؟
ان طبيعة النظام السياسي لاتفسر مطلقا مايحدث فهناك مجتمعات بدون انظمة سياسية وهي اعلى درجات على سلم التطور واخرى عاشت تحت ظل نظام ديكتاتوري وسبقتنا.
في العراق منذ مايقرب العقد ارقى نظام لتداول السلطة عرفته البشرية وعمل سنة لهذا النظام كان بامكانه ان يقفز بالعراق مئة سنة الى الامام لكنه قفز بنا الف عام الى الخلف.
مالذي ينقص العراق؟
لابد من الاقرار ان في العراق اثنين من المؤسسات الراقية
المؤسسة الدينية
المؤسسة القبلية
عملهما معا عوض غياب الدولة ووفر الحد الاعلى من بشرية المجتمع فالعراق مثلا ليس نيودلهي التي توصف بانها عاصمة الاغتصاب كما انه لاتوجد اناس تموت على ارصفة الشوارع من الجوع او المرض والفرد يشعر بانه مغطى سماويا وقبليا وهذا يوفر له الشعور بالامن الذي ياتي على راس الحاجات الاساسية للبشر.
ان الهتاف اليومي للسكان بلغتهم المحلية
ماكو دولة
هو صحيح الى حد كبير
وهو مبحثنا الى جانب هتافنا الدائم
اين المجتمع؟
نحاول هنا البحث عن اجوبه عبر عدة مقاربات منها تجربة كردستان.
ولدت كردستان بشكلها الحالي عام ١٩٩١ ، لايبدو ذلك التاريخ بعيدا جدا نظرا للاتفاق الملحوظ حول قصر الزمان شعوريا مع ثباته رياضيا، ذلك العام كنت اشهد بالتفاصيل الدقيقة عملية بيع كامل البنية التحتية الى دول الجوار بحيث افرغت المنطقة من المعامل والالات واجهزة المستشفيات والسيارات بانواعها وصولا الى اسلاك الكهرباء وصعودا الى مرصد فلكي كان يطل على شقلاوة، كان الشعور ان علي كيمياوي قادم وان الوضع مؤقت والموقف العالمي غامض تماما فقوات التحالف التي اخرجت العراق من الكويت بهزيمة ساحقة اعطت الضوء الاخضر للسلطة المركزية باعادة مركزيتها ثانية لتسحق الاطراف الثائرة ودارت الكثير من القصص وسالت الكثير من التحليلات نتيجتها النهائية ان كردستان ظلت بوضع قلق ثم تلى ذلك القتال الكردي الكردي ودخول الجيش العراقي الى اربيل والولادة الحقيقة لكردستان بوضعها الحالي يمكن ان نحددها بالعام ٢٠٠٣ وسبب هذه المقدمة هو محاولة لحصر الانجاز الكردي بالزمن ولنتصالح على ٢٥ سنة.
في ربع القرن هذا تقول الارقام المبذولة ان في كردستان ٢٠ جامعة منها عشرة حكومية وعشرة اهلية قبلت هذا العام ٣٧ الف طالب وهناك مجموعة المعاهد في اربيل ومجموعة المعاهد في السليمانية وهي غير الجامعات والرقم المكمل ان التقديم تم عبر النظام الالكتروني الذي طرح للتجريب العام الماضي اي جربوه العام الرائح وطبقوه السنة وانت اذا اردت الحكم على اي جماعة بشرية
عليك ملاحظة ثلاثة انظمة لاغير
نظام الافراغ (الزبالة او النفايات او الفوائض)
النظام التعليمي
النظام البيئي
صحيح انني لم اقف على الية عمل نظام الافراغ في كردستان الا انني لم اجد اي مزبلة بزاوية الشارع حيث تناولت تنكة الزبالة
من على راس جارتنا وافرغتها بركن بيتنا مع عبارة مازلت كما انت لم تتغير.
تنزل الامطار بمعدلات عالية لكن المياه يتم تصريفها وتظل الشوارع تعمل.
تشكل منطقة بارزان محمية طبيعية بمساحة ١١٠ كم مربع حيث يحظر الصيد تماما وتقول شهادات للسكان ان الحيوانات تعيش معهم في البيوت
بعد فتوى من شيخ بارزاني بتحريم الصيد وكذلك بقوة القانون ماسمح بعودة الحياة البرية وعموما لايظهر اي مواطن او مسؤول كردي يحمل
بندقية ويتفاخر باطلاق النار على الحيوانات.
في بوابة مطار اربيل هناك صورة للزعيم الكردي الاسطوري مسعود البارزاني يظهر فاردا ذراعيه لعصا التفتيش في اشارة على مايبدو الى انه لااحد فوق القانون
مع اول ضابط جوازات تكتشف انك تتعامل مع نظام الماني صارم فهناك مهنية وحرفية ونظام وعلامات تدريب وبعد نظرة سريعة ورشيقة فاحصة ناولني
الضابط الشاب الجواز بدون ان يثبت مدة للاقامة وعندما سالته عن المراجعات اللاحقة قال انت عراقي لاتحتاج الى اي اقامة اما كيف عرف ذلك فلانه قرا
محل الولادة ، في الدخول كما الخروج لم اشعر برهبة المطار التي تعيش في نفوس العراقيين.
حصل هنا ان قامت عصابة بارتداء ملابس الشرطة وقطعت الطريق على سيارة تنقل الذهب وقد اسفرت عملية السطو المسلح عن سرقة مئة كغم من الذهب
وقد فر زعيم العصابة الى كردستان لكنه مالبث ان عاد مع مساعده داخل كيس او كونية كما اوردت الصحافة بعد ان قامت سلطات كردستان بالقبض عليهما وتسليمهما
الى الشرطة الالمانية والتفاصيل يمكن العودة اليها في صحيفة بلد.
عندما تدخل الى كردستان من جهة الوطن الام تحتاج الى اقل من نصف ساعة لانجاز ورقة الاقامة والمعاملة تتضمن تسجيلك بمقارنة وثائقك وتصويرك وامرارك على عدة
ضباط دون اي روتين.
بالطبع يمارس سائقو حافلات النقل دور المواطن الصالح بالابلاغ عن اي حالات مشكوك فيها وايضا يخطرونك بانك تحتاج الى عمل الاقامة وانهم لاينتظرونك لهذا الغرض.
قبل ايام توصلت السلطات في كردستان الى اتفاق مع الجمهورية الاسلامية في ايران يسمح بدخول المواطنين الاكراد بسياراتهم الشخصية الى الاراضي الايرانية هذا الاتفاق
يعتبر نموذجيا في بلدان الشرق ويمكنني اعتباره نقطة تحول سايكولوجية في شخصية الانسان الكردي الذي لم يعد بنظر نفسه ونظر الاخرين بانه قاجاقجي لقد ولد الكردي
الجنتلمان وكرقم مكمل فان عدد السيارات في كردستان هو مليون سيارة اي سيارة لكل خمسة اشخاص وهي تقتل بمعدل شخص يوميا وعشرة جرحى وهو رقم مرتفع جدا
لكن هذه المشكلة قاربت من انتاج اهم نظام يفتقده الشرق هو التامين الاجباري على السيارات وهو الموضوع الذي تم بحثه بجدية مؤخرا.
حتى الان لم يكشف الاكراد عن طبيعة نظامهم الاقتصادي ربما حذرا من تاثيره على قرارهم السياسي المستقبلي لكن هناك نظام ضريبي ونظام بريدي ونظام ترقيم وهذه بالطبع
بنى تحتية لاي اقتصاد.
هناك تبغ وعسل ولبن واصناف من المنتجات الزراعية ويمكن ملاحظة الحد الفاصل بين المزروع وغير المزروع على الحدود بين كردستان كمنتج للحنطة والشعير وبقية المناطق العراقية المتصحرة ، يمكن ملاحظة زي السكان العملي
وكيف ان الفلاح هناك يلبس مايحمي راسه ويشد ظهره ويدفئ جسده ويحفظ قدميه.
عندما تتجول بعين فاحصة ترصد بيسر تحول كردستان الى حاضنة للتنوع البشري وهي منطقة تلاقي بين الفرس والترك والعرب والكرد واصناف اخرى من البشر ياتي بهم الجو والبر كمهندسين
وخبراء واصحاب مشاريع وسياح ومستكشفين ومستطرقين.
الحجر المتحرك لاينبت عليه العشب والعراق بلد واقف ومتحرك ، شئ ما يحدث هناك لايمكن فهمه يدفعك للسؤال دائما
لماذا يتفرد العراق بانه يتطور عكسيا؟ اي كلما تقدمنا الى الامام في الزمن صارت الاوضاع اكثر انهيارا؟ لماذا انهار المجتمع العراقي؟
لا احتفظ باي ارشيف لكتاباتي وقد كانت هناك ورقة بعنوان ( المجتمع العراقي…الحاجات الاساسية) وفيها ثبت بان هناك حاجة اسمها الحاجة الى الدم في المجتمع العراقي وان دورة الدم تحدث بمعدل عشرة سنوات
وتاخذ عناوين مختلفة وكلها مخادعة وان هذا المجتمع لايمكن ان تصلحه السياسه انما يحتاج الى افكار من نوع اخر للاصلاح.
انني ارصد مايمكن تسميته بالجين الاجتماعي وهو تحول السلوك بفعل التكرار الى مايشبه المورثات الجينية واننا نحتاج الى فاصلة بين الاجيال لاحداث القطيعة مع هذه المورثات او الى علاج طبي يخضع له السكان.
سنبحث هذا في ورقة لاحقة لنكمل حكاية كردستان.
الذي اتصوره ان النخب الكردية تبحث شكل الدولة الكردية القادمة على مهل وهي ليست بعجلة من امرها حيث المنطقة تنهار دولة تلو اخرى وان عدم وجود السابقة التاريخية عدى جمهورية مهاباد التي انتهت بماساة قومية
يجعل الاكراد ينحتون دولتهم بصبر واناة وعلى العكس مما يعتقد البعض فان طبيعة الحكم الحالية وهي التحالف القبلي الاقطاعي القومي المؤطر بنظريات سياسية وتنظيمات حزبية قادر على بناء حياة سياسية تنتج النخب
السياسية المحترفة وهو مارايناه عبر ولادة حركة التغيير.
ازدادت فتحة المقص بين كردستان وبقية مناطق العراق ونحن امام واقع اسمه التفاوت اذ ان كردستان الان منطقة حريات فردية وحريات سياسية ومنطقة فصل بين السلطات ياخذ فيها القضاء فاصلته عن السياسة
والحياة عموما يسقيها الشلال وتتسلق الجبل الاخضر ويرقصها النوروز بالوانه وتنعمها الموسيقى والفنون وتتبدل فيها الفصول وهي اكبر خزان للمياه العذبة في العالم بعد تركيا ولديها قوة هائلة في الخارج تتمثل
في مئات الالاف من الشباب المهاجرين الذين صاروا احد مصادر الدخل القومي وكذلك الاسناد السياسي وهم الذين رايناهم يتظاهرون ضد الحكومة المركزية ونصرة لكردستان في المواجهة الاخيرة بينما لم يتظاهر شخص واحد
نصرة للحكومة المركزية.
كيف استطاع الاكراد التصالح مع ذاتهم وهم المثقلون بحرب كردية كردية طاحنة وتنظيمات الفرسان وتنظيمات دينية متطرفة؟
هل هو العرق؟
هل هي الجغرافيا؟
هل هي المياه المعدنية؟
هل هو الموقع من الكون؟
هل هي قوانين الاله؟
هل هي اسرار التاريخ؟
هل هو الجبل الكتوم الغامض المليء بالاسرار مقابل انكشاف السهل؟
هل هو الجين الاجتماعي؟
بين عاصمة الالهة الاربعة وعاصمة الاله الواحد تتباعد المسافات بالسنين الضوئية انه النظام والفوضى.
لماذا نجح الاكراد وفشل العرب؟
مقالات اخرى للكاتب