من حصيلة التمنيات المتبادلة للعام الجديد بين العراقيين، وبخاصة المعنيين بالشأن العام والمشغولين بالمستقبل، يظهر ان العام 2016 ليس ككل الاعوام، هذا ما تبوح به افئدة وهمسات وعبارات الذين نلتقيهم، ربما، لنفاذ صبرهم على ما يواجهونه من ضغوطات الايام.. كل ذلك يجعل من الهواجس الجمعية للعراقيين نوعا من المراهنة على «أمل» يتشبه بالغرائز التي تسكن البشر، يقترح علينا ان نتوقع احداثا ايجابية كبيرة، ليس اقلها وضوحا الانتصارات المتحققة على جبهة الحرب مع عصابات داعش، بما سيعني تفكيك الكثير من العقد والمشاكل.
انه الامل في تعريفاته القاموسية كنزعة تقترب من تعريف الثورة، فان «ثورة الامل» قد تنصرف، كما يقول «اريك فروم» الى مدارات ابعد من دائرة علم الثورات الاجتماعية، الى السايكولوجيا، مثلا، ويشاء «الدوس هاكسلي» ان يجعل في كتابه (افضل العوالم) من الامل قوة سحرية لصناعة التغيير، هو، باختصار، احساس نبيل وسري باهمية مشروع الحياة الذي تتشبث به الملايين ورفض الاستسلام للتهديد والقتل العشوائي، ومواجهة سلمية وانسانية لسطوة العنف ومؤسساته، وهو تعريف لتفاعل الذات الشعبية المدنية مع ضوء ساطع، هذه المرة، في النفق الطويل الذي حشرت فيه البلاد على يد الرطانات المسلحة المختلفة، وهو باب قد يفضي الى الفعل الشعبي البَنّاء والتغييري بعد سنوات ثقيلة خوضت طوالها مشاريع كثيرة معلنة في الوحل وسوء السمعة، وتصدعت خلالها صورة الكيفيات القائمة.
**********************
مطلوب، بمقابل ذلك، نوع من الحصانة ضد الاوهام، بعد ان صار لهذه الاوهام صناعات وماركات ومصالح، وبراءات اختراع، ويتطور انتاجها وتسويقها في مسارات معقدة حتى بلغت عصر النت والحكومات الالكترونية والعلم في موصوفات مناهضة لحقائق الاشياء وللواقع، وآخر منتوجات هذه الصناعة، لدينا مثلا، القول ان كل شيء على ما يرام، فيما كان بعض المرام كارثيا.
على انه ليس بالضرورة ان يكون صانعو الاوهام موهومين، فثمة الكثير ممن يعمل في هذه الصناعة موظفون في مؤسسات اعتبارية، سياسية ودينية، مهمتهم حشر الملايين في خيار الهروب من الحال، او الرضا عن الحال، وهم، بالضرورة، يمتلكون مواهب التوليف، وتقنيات الاقناع، واساليب الوصول الى جموع الضحايا، فضلا عن «ثقافة» تناسب هذه الوظيفة، وتؤهل صاحبها لفرصة عمل غير منتجة عنوانها: تجهيل الجمهور قدماً حتى تدمير نوعه الانساني، وليصبح مريضا في داء لا دواء له.
وفي هذا ينقل هادي العلوي في مستطرفه عن داعية يقضي بتحريم العمل والمثابرة بقوله: «من تحركت همته بالتصرف في نهاره بتدبير ما يفطر عليه (معاشه) كتبت عليه خطيئة، فان ذلك من قلة الوثوق بالقدر (الايمان) وقلة اليقين برزقه الموعود» فيما يدعو الحسن بن محمد الديلمي المرء الفقير، كما يشير العلوي، الى سعادة موهومة بالانصراف الى التعبد وهجر العمل «فان نصيبك من الدنيا يأتي من غير فكر ولا حركة».
فالصناعة هي صناعة، كما يقول تشارلس كامان صانع طائرات الهليوكوبتر الشهير، اما الاوهام فهي مرض لم يكتشف العلم علاجا له حتى الآن، سوى وجوب الاقامة بمصحات بالنسبة للذين يعانون من اعياء التفكير في ما لاطائل منه، ومنذ القدم لاحظ العالم اليوناني هيبوقراط أن الإعياء الذي لايعرف له سبب ينذر بمرض ، وان الذي يوخزه شيء من بدنه ولايحس بوجعه في أكثر حالاته فعقله مختلط، والإحساس بوجود مرض دون التوجع منه يشير إلى علة في القوى الإدراكية.
في الغالب لا تصبح الاوهام صناعة رائجة إلا حين يكون وراء ذلك مصلحة، او مشروع سياسي، فان تعصيب العيون وتبليد العقول وتعطيل مفاعيل الارتقاء والنشاط الجمعي للناس لا تتم من غير فاعل يتاجر بغفلة الملايين، وحين تقبل هذه الملايين ان تتمتع برزاياها.
ماذا يلزم لطفل عار، مهجور، من سلاح وحجج، لكي يقلب معادلات العالم وتقاويمه ونظامه الاخلاقي؟.
شيء ما يشبه الخيال. يضاهي المعجزة.
الطفل يسوع شق الرحم الى صوت رعدٍ بشير، ومنه الى اغصانِ زيتونٍ كثيرة، ورطبٍ، لبشرية كانت تتقاتل بشراسة وتكيد لنفسها، ثم الى خشبة بمقاس قامة واحدة، فتضحية اسطورية. ثم الى رسالة محبة وسلام، لا نزال نجددها ونتجدد فيها، بوصفها العلامة الدالة على اننا مخلوقات مسالمة، او على وجه الدقة، اننا ولدنا مسالمين قبل ان نتوزع الى ملائكة وشريرين، مثلما توزع اصحاب يسوع الى قديسين وغادرين.
وفي كل عام، منذ نيف والفين، نعيد قراءة حكمة الطفل النبي، ونرى منها احوالنا وامتعتنا وسجلاتنا، ونستشرف منها طالعنا وايامنا المقبلة، فنتساءل: أي عالم عجيب حل بنا؟ واية سنوات ضارية اغارت علينا؟ وماذا ينتظرنا من عالم واعوام؟ ثم نتواكل على غريزة البقاء بمواجهة قوى الفناء والردة، لنعطي الطفل العاري بعض دين في رقابنا يوم حضّنا على المسرات، وعلى ان يكون خبزنا كفافا “وعلى الارض
السلام”.
فلك الدين كاكائي.. لن أنساك
يوم جاءني خبر وفاتك قبل ثلاثة اعوام حاولت ان انسّق الاشياء من جديد.
انت الميّت مجازا، إذ استعارك الموت منا وتركَنا على حبل غسيل ممتد الى ما لا نهاية. ثم اعطانا فرصة انْ نحزن بعد ان أدمنا استقبال الفواجع من دون ان يرف جفننا. موتك جاءنا على شكل حالة من انخفاض ضغط الدم، او هكذا صرنا ننظر الى خساراتنا المتكررة، واحيانا ننظر لها كخبز بائت نتجرعه بصعوبة، او كنشيد مدرسي مللنا الاستماع اليه.
منذ ان عرفتك وزاملتك لاول مرة قبل 43 عاما باسمك الموسيقي المستعار «أ. برشنك» كنت غامضا، وكلما تزداد غموضا كنت تتضح لي، سألتك مرة: ماذا تعني النخلة بالنسبة لك.. ابتسمتَ وقلتَ: تعرف ان النخلة في بساتين كركوك تختلف عن نخلة الفرات، في انها غامضة. كنتَ تحب كركوك، فهي مسقط رأسك، ومورد انتباهاتك المبكرة، ودفتر يومياتك الاولى. كم تشبهك كركوك في قسمات كثيرة، النهر الذي يشقها، والتضاريس الصخرية الحميمة، والمقاهي الملأى بالفتيان الذين يقرؤون الكتب ويرسمون لوحات من عوالم ديلاكروا ويحبون الموسيقى. فما اكثر الاشياء المرشحة للرثاء. اتذكر زمالتنا الصحفية العام 1971 . في تلك الايام كنت تجلس قبالتي. تسعل كثيرا، وتمزق اوراقا كثيرة. وتكتب سطورا متزاحمة وناعمة ومرصوفة بعناية، ثم تغادر المكان مثل خاطرة انهت مهمتها المضنية، وفي اليوم الثاني تملأ المكان بالاعتذارات عن ذنوب لم ترتكبها.. نقول لك لا شيء يوجب الاعتذار، فتقول اشكركم إذن.
يا صديقي الباهر، كان موتك قد سجل انتصارا علينا، بعد ان انتصر على وضوحك الجميل.
مقالات اخرى للكاتب