ينتمي العراق في ثقافته الى بيئة عربية توارثت قيماً وتقاليد وأعرافاً يرجع بعضها الى ماضٍ تحكمت فيه القبائل والعشائر وسادت فيه الصراعات والنزاعات وكان للعصبية القبلية ان لعبت دورآ فيماً يشبه ستراتيجية الدفاع الذاتي في مراحل التطور والتحولات الجوهرية في حياة المجتمعات العربية. وعند ابواب القرن العشرين وما شهده من تطورات على مستوى العالم حدثت انتقالات كبيرة تم فيها تشكيل دول بهيئة ممالك وامارات حلت محل القبائل والعشائر واعطيت السيادة للقوانين والتشريعات الحديثة فيما احتفظت المجتمعات العربية بتقاليد واعراف زاوجت بينها وبين الدين وانتجت افكارآ ومواقف ازدهرت في ظلها ايديولوجية التشدد.
وفي العراق فقد انزاحت الهياكل القديمة لصالح الدولة الحديثة بعد ثورة 1958 بألغاء قانون دعاوى العشائر الذي اصدره المحتل وصادق عليه النظام الأساسي (الدستور) الذي صدر في عام 1925, وأستثناءً من بين جميع النظم العربية وبشكل خاص الخليجية منها تجري في العراق محاولات للعودة بالدولة الى ما قبل التأسيس على خلفية اضطراب الوضع السياسي وفشل مؤسسة الدولة في القيام بواجباتها المختلفة ومنها ضعف قدرتها في فرض القانون. ومن المهم تفسير وفهم الظواهر الاجتماعية في اطار مراحل التطور التاريخي الذي شهده العراق حيث لعبت القبائل العراقية او اريد لها ان تلعب دورآ ضامنآ للاستقرار عند تأسيس الدولة العراقية ولم يُعطَ هذا الدور بالمجان فاتسعت مساحة الاقطاعيات وانتقل عدد غير قليل من شيوخ العشائر الى خانة الموالاة للسلطة الاجنبية ومن ثم مااصطلح عليه بالسلطة الوطنية فيما بعد لكن ذلك لم يقلل من الحماسة الوطنية لبعض الشيوح وان اضعفت من تأثيرهم في الحياة السياسية. لقد منح قانون دعاوى العشائر زعماء القبائل الحق القانوني في مشاركة الحكومة في اختصاصاتها وكان ان شاركت العشائر او استخدمت في العديد من محطات الصراع على السلطة. ولم يستطع هذا القانون ان يحفظ للتجمعات العشائرية مايحميها من الصراعات الدموية في اوقات مختلفة وانما وسع من نفوذ الاقطاعيين الذين مارسوا دورآ مزدوجآ كشيوخ ووجهاء وايضآ كمالكين للنفوذ والسلطة حتى ان بعضهم امتلك سجونآ خاصة وكان من نتائج ذلك النزوح الكبير للفلاحين من مناطق سكناهم الى حيث تكون المدن ومنها العاصمة بغداد في الفترة التي سبقت قيام ثورة تموز 1958 وبرغم ما قامت به سلطة الثورة من اجراءات تُحسب لها لتحسين اوضاعهم واسكانهم بطريقة لائقة الا ان تلك الاجراءات لم تكن كافية لدمجهم بمجتمع المدينة وظلوا يعانون من عدم استيعابهم في النشاط الاقتصادي الذي لم يرتق الى مستوى النشاط الرأسمالي القادر على اجراء تحولات نوعية فكان لهذه التجمعات ان خلقت نشاطها الاقتصادي الموازي وحافظت على قيمها واعرافها العشائرية وتحولت فيما بعد الى قيم أرأسية بفضل السياسات التي اتبعتها الانظمة المتتالية وخاصة في الفترة الاخيرة من عمر النظام الشمولي, ان هذه التجمعات قدمت في فترات عديدة تضحيات جسيمة واستخدمت وقودآ لحروب مدمرة ولا تزال هي المعين الاكبر في الصراعات والحروب التي حدثت بعد سقوط النظام الدكتاتوري ومن المؤسف ان التطورات اللاحقة والتي ساهمت بخلقها السلطات المتتالية والتعقيدات التي حدثت بعد عام 2003 وضعف سلطة الدولة وتنامي الارهاب وعدم حل مشاكل المجتمع على قاعدة العدل والمساواة منحت من جديد العشائر فرصة الاستحواذ من دون حق على حيز واسع من السلطات بالتماهي والتخادم مع احزاب اسلاموية وميلشيات متعددة فأصبح العبث بحياة الناس من الظواهر المؤلمة وصرنا نرى الاقتتال بالاسلحة الثقيلة بين العشائر لحل مشاكل الاستحواذ على المغانم والسرقات من المشاهد الغرائبية التي ليس لها مثيل.
في هذه الأجواء تتبنى رئاسة الجمهورية طرح مشروع " قانون قبائل وعشائر العراق " على مجلس النواب لتشريعه وهي المرة الثانية بعد ان قامت الحكومة بسحب القانون في عام 2012 بعد ان واجه معارضة شديدة من اطراف وقوى سياسية مختلفة ومن قوى المجتمع المدني.
ان التيار الديمقراطي لا يزال يعتبر ان تشريع هذا القانون يمثل إنتكاسة في مفهوم الدولة الحديثة وعودة الى الوراء استنادآ الى الملاحظات الآتية:
1- انطلاقآ من مفهوم ان القبيلة او العشيرة هي اسرة كبيرة تشكلت لأسباب موضوعية وستبقى الى أمد غير معلوم ومرتكزها الأساسي (رابطة الدم) فقد انتج هذا التشكل البشري ثقافته الخاصة في ادوار مختلفة للحفاظ على الكينونة البشرية في اطار الصراع من اجل الحياة او العيش اما العشائرية فهي ايديولوجيا العشيرة تدخلنا في مأزق التعصب والتصادم مع الحداثة ومع قيم المدينة التي تقوم على الهوية الجامعه. ولاننا جزء من هذا العالم الذي تحولت فيه (المدن) الى ما هو اوسع من فضاءاتها بتأثير العولمة فتعولمت المدينة بالتنوع البشري وواجهت في العراق مشكلة الهويات الفرعية المتضخمة التي لم يكن تشكلها بعيدآ عن خنادق العشائرية والطائفية بمناخها العصبوي. في التحولات اللاحقة بعد ان حازت الدولة على مديات اوسع للتمثيل الشعبي وحيث يصبح القانون والحقوق والعقد الاجتماعي (الدستور) هو ما يحكم علاقة المواطن بالدولة. فقد حلت الروابط الجديدة بتقاليدها المدنية محل الروابط القديمة بالتقاليد العشائرية وكان ينبغي لهذا التحول ان يأخذ مداه الواسع الا انه توقف عند حدود الانظمة الطائفية التي مدت الجسور نحو الولاءات العصبوية في المجتمع فهي تستكمل معها نموذجها في بناء السلطة ومن جهتها حاولت العشائر ان تتماهى مع النظام لانها تجد في طبيعته التكوينية احدى اليات إنتاجها والمحافظة على كينونتها. لذلك يصبح الحفاظ على المدينة وقيمها ومنتجها الانساني بهويته الجامعة احد أهم المرتكزات لبقاء الدولة الحديثة.
2- هناك مَن يعتقد ان التجمعات الاجتماعية العشائرية لا تختلف عن منظمات المجتمع المدني وهو تصور خاطيء فمفهوم المنظمات ارتبط بالتشكيل الجديد الحداثي لبناء الدولة وهو المعادل الموضوعي للفراغات في البناء الديمقراطي المدني للوصول الى النموذج الامثل في التعبير عن التمثيل لعموم المجتمع والعشائرية نقيض المسلمات الديمقراطية لانها تضعف من صوت الناخب فهو يذهب الى حيث تكون وتريد العشيرة خارج اطار التمثيل الحقيقي لمصالح الشعب.
3- شيخ القبيلة او العشيرة في تعريف مشروع القانون يتسيّد (بالوراثة) المؤكدة بالوثائق ومع كامل الاحترام لكينونتهم الانسانية فأن المجتمعات البشرية غادرت منذ فترة طويلة هذه العلاقة الانسانية المتعارضة مع القيم الجديدة ليس على مستوى الافراد فقط وانما على مستوى الدول.
فالشيوخ يتمتعون بصفتي المواطنة والوجاهة المعززة بالنفوذ وابناء العشائر يتمتعون بصفة المواطنة المنقوصة بسبب التراتبية الاجتماعية التي يراد ترسيخها خارج اطار الدولة.
ان النظم التي تقوم على الوراثة سواء على مستوى الدول او التشكيلات الاجتماعية لم تعد تصلح في بناء الدول الحديثة وقيمها العصرية وما تشهده من تحولات كبرى اصبح فيها العالم قرية صغيرة.
4- هناك اشكالات قانونية فحل النزاعات بالفصل العشائري المعروف هو تصرف قانوني يجري خارج القانون ويناقض الدستور وهو يؤدي الى وجود نظامين قانونين ويسلب من القضاء بعض صلاحياته, كما ان العقوبة في العرف العشائري لا تأخذ بمبدأ العقوبة الشخصية ولا يتحمل الجاني وحده نتيجة عمله وانما تطال افراد اسرته والعشيرة وعلى مثل ذلك يقوم مبدأ التعويض وذلك مخالف للقانون والدستور وحقوق الانسان. فضلآ عن ذلك فان مبدأ الدية وهو التعويض وقد تكون النساء احدى ضحاياه فيما عرف لدينا بـ(الفصلية). لقد وردت في مشروع القانون في المادة (4) اولآ وثالثآ وخامسآ نصوصآ تتعارض ومفهوم الدولة التي نص عليها الدستور وتشاركها في مسؤولياتها القانونية ومن ذلك حماية وحدة العراق وسيادته وثوابته الوطنية وحل النزاعات العشائرية وغيرها مما يدخل في الصميم من اختصاصات الدولة.
5- ان القوى الديمقراطية تسعى الى ترشيق الدولة وجعلها ادارة فعّالة لا كما هي عليها الان دولة ثقيلة متضخمة اصبحت هدفآ للتنازع على مواردها ومراكزها وهيئاتها ومن شأن اضافة هيئة جديدة تزيد من اعباء الدولة المالية والادارية ان تعمق الازمات القائمة وتحولها الى مسرح جديد للصراعات على النفوذ والموارد.
ان الموقف من رفض تشريع القانون يجب ان لا يُفهم على انه محاولة للسعي لتقويض الوجود العشائري ذلك لانه حقيقة انسانية للانتماء غير قابلة للالغاء ولآن هناك قيمآ ايجابية لا يمكن نكرانها مثل (التعاون/ التكافل الاجتماعي/ التسامح/ رفض الاعتداء/ إسقاط شرعية الدفاع عن المجرم/ وغيرها), وهي قيم عالية ومشتركة ايضآ وقادرة على الانبعاث في قلب المجتمعات المدنية الحديثة . ان محاولات جر العشائر الى خنادق وظيفية جديدة ذات اشكال قانونية من شأنها ان تدفع من جديد بالعصبوية الى الحافات الخطرة ومن وجهة نظرنا ان نترك للمجتمع وهو داخل في صيرورة التشكل الدائمية حرية النمو والتداعي الحر وان تعطي للحراك الاجتماعي والتحولات الاقتصادية وغيرها من العوامل المدى الاوسع في رسم ملامح المستقبل.
أن امام شعبنا ان يختار بين ان يكون جزءآ من عالم جديد بكل قيمه المتعالية إنسانيآ وحضاريآ واجتماعيآ وبين ان يظل سارحآ في متاهات التراجع واللاقانون والصراعات الطائفية والعشائرية وازدواجية القوانين وتحكم النزعات الفردية المستبدة.
مقالات اخرى للكاتب