تتحدث حكومتنا ـ وبإخلاص شديد ـ عن الحرب على الإرهاب ، وعن ضرورة نشر الوعي الجديد عبر تطوير التعليم ، وتجديد الفكر الديني ، ومع ذلك لا تتورع هذه الحكومة نفسها عن اتخاذ قرار بإغلاق مكتبات كان قد أسسها في بعض الأحياء الشعبية المناضل الحقوقي "جمال عيد" من عائد جائزة كان قد حصل عليها مكافأة لنشاطه في ميدان الدفاع عن حقوق الإنسان .
أغلقت الحكومة المكتبات رغم معرفتها الأكيدة أن العشرات ـ وربما المئات من الصبية والشبان من الأولاد والبنات كانوا قد أقبلوا عليها نظرا لأن الأحياء والمدن التي تأسست فيها هذه المكتبات لا تحظى بأية خدمات ثقافية حكومية أو أهلية.
وكان الإقبال على هذه المكتبات شأنه شأن التزاحم على مطبوعات مكتبة الأسرة التي تراعي أسعارها إمكانيات المواطن البسيط محدود الدخل ـ كان هذا الإقبال منقطع النظير يرد على الاتهامات العشوائية للفقراء بأنهم لا يحبون القراءة ولا الثقافة عامة ، وعلى التليفزيون أن يتولى تثقيفهم بالمواد التافهة والبرامج الهابطة التي تقدمها لهم غالبية القنوات ، وهي تعمل بوعي على تكوين المواطن المطيع الخامل الذي يتقبل التوجهات الحكومية ويصدقها دون جدال ، وتعرف الحكومة أن الموطن القارئ الذي يختار ما يقرأه بوسعه أن يهزم رداءة التعليم ورجعية الفكر الديني السائد ، سواء الذي تبثه المؤسسات الدينية الرسمية أو الجماعات السلفية الأهلية ، والتي يلعب بعض ممثليها أدوارا بالغة الخطورة داخل المؤسسة الرسمية ، ناهيك عن نفوذها المتنامي في حياة المجتمع مستفيدة من الفراغ السياسي والفكري الذي صنعته حكومة خائفة من شعبها ، خائفة لأنها ترى أن احتجاجاته مدفوعة بمؤامرة خارجية وداخلية لابد من التصدي لها ، ومعاقبة الضالعين فيها .
ويكمن سر الخوف من الشعب في هذا اليقين الراسخ أيضا لدى الحكم أن التفكير خارج الصندوق كما يقال ، أي التفكير النقدي الذي توفر لعشرات الآلاف من الشابات والشبان الذين أتقنوا فن التعامل مع ثورة الاتصال ، وتلقوا تعليما مختلفا أنفقت أسرهم عليه ـ هؤلاء الشباب هم الذين أشعلوا موجات الثورة المختلفة ، أي أن الثقافة رغم كل القيود والمعوقات لعبت دوراً مركزيا تجاهد الحكومة القائمة للحيلولة دون تكراره بإصدار المزيد من القوانين المقيدة للحريات بدلا من معالجة الأسباب الاقتصادية والاجتماعية والسياسات التي طالما أشعلت غضب المواطنين .
تغلق الحكومة المكتبات ، وهي تتوسع في ذات الوقت في إنشاء المراكز الرياضية ، وهو توجه جيد ومفيد ، ولكن رغم انها تردد كثيرا أن مواجهة الإرهاب ليست مجرد عمل أمني فحسب ، ولكنها ينبغي أن تكون منظومة تحتل فيها الثقافة مكانا مميزا ، فإنها في حين تبني الأجسام تواصل التعتيم على العقول متصورة أنها تستفيد سياسيا من حرمان بعض الفقراء من الثقافة ، وهم هؤلاء الذين يترددون على المكتبات ، ولا يملكون القدرة للحصول على الكمبيوتر والوصول إلى ثورة الاتصال الجديدة للتعامل معها والاستفادة منها ، أي أن ثمة بعدا طبقيا سافرا في هذا الإجراء.
دأبت منظمة الإخوان منذ تأسيسها عام 1928 على بناء الأجسام والعقول معا فأنشأت المراكز الرياضية وبقيت الرياضات المختلفة دائما جزءا من برنامجها الدعوي الذي قام على السمع والطاعة ، وتجريم الحوار ، والنقد وخرجت من تحت معطفها أجيال مبرمجة طريقها مفروش بيقين ديني مزيف ، طالما قاد الآلاف منهم إلى ممارسة العنف وتكفير المجتمع "الجاهلي" على حد تعبير "سيد قطب" ومنهج السمع والطاعة هو التوجه الضمني الذي تتطلع حكومتنا إلى تسييده حتى يكون بوسعها أن تفرض السياسات التي اختارتها بالاتفاق مع المؤسسات المالية الدولية ولصالح المتنفذين من رجال الأعمال ، وعلى حساب الغالبية العظمى من المصريين الذين أصبحوا عاجزين عن العيش .
يبقى جانب آخر في قضية إغلاق المكتبات التي أنشأها "جمال عيد" هو للأسف الشديد جانب "المكايدة" ، فجمال عيد هو واحد من المتهمين في القضية 173 المسماه بالتمويل الأجنبي ، والتي جرى تحريكها عام 2011 لمعاقبة عدد من منظمات حقوق الإنسان ومؤسسيها ونشطائها انطلاقا من الفكرة السابق الإشارة إليها وهي أن هذه المنظمات كانت مسؤولة عن إطلاق موجات الثورة المتعاقبة وإسقاط الرئيسين حسني مبارك و محمد مرسي .
وحين التقت مجموعة من المثقفين مع الرئيس عبد الفتاح السيسي في نيسان الماضي طالبوا بإغلاق ملف هذه القضية ، ولكن الروح الانتقامية أحيتها من جديد.
وكان بوسع الحكومة لو أن منطقا عقلانيا يحكم سلوكها أن تحافظ على هذه المكتبات وتطورها حتى وهي تقدم مؤسسها للمحاكمة ، ولكنه الخوف من الثقافة ، والحذر من التفكير الذي قد يعارض اختياراتها ، وسواء أكانت الحكومة تدري أم لاتدري أنها بمثل هذه الإجراءات تمهد الأرض لانخراط شباب جدد في منظمات الإرهاب التي ترفع شعارات دينية فإن علينا أن ننتظر الكارثة التي يمثلها تفاقم الإرهاب.
مقالات اخرى للكاتب