إذا كان باب الارتزاق بالشعر قد أُغلق قليلاً ، فقد فتحت من بعده أبواب كثيرة للارتزاق بالسياسة !.
ولصديقنا الأستاذ الدكتور جلال الخياط ، رحمه الله ، كتاب ممتع شيّق سمّاه ( التكسّب بالشعر ) ، ولو أن سنوات عمره أمهلته رُويداً في الأجل ، حتى يطلع على فصول من الكوميديا الكبرى للسياسة في عراق الألفية الثالثة ما بعد الميلاد ، ما كنت أظنه يتردّد عن تأليف كتاب يتحدّث عن ( التكسّب بالسياسة ) !.
يُقال : أن الأعشى كان أول الشعراء المتكسّبين بالشعر حدّ أنه اتخذ منه تجارة يطوف بها بين قبائل العرب ، وأبو تمّام هو القائل : ( الشعر بضاعة ) ، وعندما نهى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب الحطيئة عن قول شعر الهجاء ، جاء ردّه مختصراً : ( إذن يموت عيالي جوعاً يا أمير المؤمنين ) !.
يُضحكنا من هذا الكورس الردئ عدد من اللاعبين في السياسة ، يلبسون عشرات الأقنعة ، ويلعبون على عشرات الحبال ، من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين .. تتقلب آراؤهم ومواقفهم حسب مقتضى الحال وأدوات التمثيل ، ويتناقضون مع أنفسهم في الأربع وعشرين ساعة أربعاً وعشرين مرّة .. مرّة يخرجون علينا بثياب القدّيسين ، ومرّة يخلعون معاطف الشياطين !.
هؤلاء لم نسمع بهم من قبل ، ولم نتشرّف بمعرفتهم ، ولا قرأنا شيئاً عن نضالهم ومواهبهم ، ولم يخطر في بالهم أن يشغلوا يوماً هذا المكان الذي يشغلوه الآن لولا ضربة الحظ .. ومع ذلك ، صرنا نسمع في الأخبار ، أن فلاناً انشق عن قائمة فلان وانضمّ إلى أخرى ، أو انسحب من حزبه وأسّس له حزباً جديداً يصحّ أن ندعوه ب ( حزب الشخص الواحد ) .. وفات عليهم أن التهريج في السياسة مثل التهريج في الشعر ، كلاهما عمره قصير !.
ولقد قرأنا عشرات الحكايات عن فقهاء ومفكرين ومعارضين دخلوا السجون ، ذات يوم ، أو أخرجوا من ديارهم إلى المنافي ، لأنهم التزموا موقفاً وآمنوا بفكر وعقيدة .. وربما كلفهم هذا الإيمان أن دفع عدد منهم حياته بضربة سيف ، أو رصاصة في رأس ، أو جرعة من سُمّ ، أو حرق في تنور ، أو حبل مشنقة ، لكنهم ظلوا ثابتين على مواقف يعتقدون أنها حق وصدق .
واقرؤوا قصص غيلان الدمشقي وسعيد بن جبير وابن حزم الأندلسي والإمام أحمد وابن رشد وابن طفيل والحلاج والطبري وشهاب الدين السهروردي ، لن تنتهوا من المواقف الكبيرة .. بل أن شاعر العرب العظيم أبا الطيب المتنبي دفع حياته ثمن بيت شعر لم يستطع أن ينكره عندما حاول الفرار من قاتله فاتك وعصبته ، وكانوا كثرة .. فقال له غلامه : لا يتحدّث الناس عنك بالفرار وأنت القائل : ( الخيلُ والليلُ والبيداءُ تعرفني ... والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ ) فقال له المتنبي : قتلتني قتلك الله .. فعاد يقاتلهم حتى لقي حتفه !.
بعد ذلك كله ، من حقنا أن نسأل :
ماذا لو تعاد الانتخابات تارة أخرى .. هل يصبح هؤلاء الذين صنعتهم الفرصة نواباً جدداً في البرلمان ، أو وزراء في الحكومة ، أو زعماء على الشاشات .. وهل يعودون هذه المرّة من الباب .. أم من النافذة ؟!.
مقالات اخرى للكاتب