لو شاء البريطانيون وضع استفتائهم على عضوية الاتحاد الأوروبي في خانة الضرورات السياسية لكان أنسب عنوان له «لزوم ما لا يلزم». ولو أراد البريطانيون الحكم على هذا الحدث على ضوء نتائجه لكان أفضل مثل ينسحب عليه هو «على نفسها جنت براقش». هل كان قرار إجراء الاستفتاء في الظروف الدقيقة التي تمر بها الساحة السياسية في بريطانيا «غلطة الشاطر» التي تساوي ألف غلطة؟ مطالبة الملايين من البريطانيين٬ في عريضة شعبية٬ بإعادة إجراء الاستفتاء قد تكون بداية تلاوة فعل الندامة على ما حصل٬ إذ لم يسبق لأي حدث سياسي أن خلط الأوراق الحزبية داخل بريطانيا إلى حد شق الحزبين الرئيسيين٬ وزعزع علاقات بريطانيا الخارجية بجناحيها التقليديين٬ أوروبا والولايات المتحدة٬ إلى حد إعادة تصنيف تراتبية بريطانيا الدولية الموروثة عن الحرب العالمية الثانية.. مثل هذا الاستفتاء غير الضروري أصلاً على عضوية الاتحاد الأوروبي. تداعيات الاستفتاء البريطاني قد تكون أفضل مثال على مخاطر تغيير «الأمر الواقع»٬ السياسي والاقتصادي والمالي٬ في عصر العولمة الإعلامية٬ فخروج بريطانيا من أوروبا لم يهدد بالإطاحة بالمكاسب التي جنتها «الجزيرة» من مناسبة تاريخية استثنائية تمثلت بمشاركتها الولايات المتحدة في جني أمجاد النصر العسكري المكلف على دول المحور عام 1945. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبريطانيا تعتبر ركًنا أساسًيا من أركان النظام العالمي الجديد يفوق عملًيا ثقلها السياسي العسكري٬ فهي واحدة من خمس دول فقط تتمتع بحق استعمال «الفيتو» في مجلس الأمن٬ وهي شريك أساسي في حلف شمال الأطلسي٬ ولاعب رئيسي في مؤسستي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. كل هذه المكاسب وضعها استفتاء الأسبوع الماضي على المحك ليس فقط لخسارتها القاعدة الأوروبية لموقعها الدولي بل أيًضا لحرمانها حليفها التاريخي٬ الولايات المتحدة٬ من «حصان طروادة» موثوق داخل الاتحاد الأوروبي. وهنا بيت القصيد في عملية «التحجيم الذاتي» التي مارسه البريطانيون في اختيارهم الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. لافت أن يسارع الرئيس الأميركي٬ باراك أوباما٬ فور الإعلان عن نتائج الاستفتاء البريطاني٬ إلى التذكير بالطابع «الخاص» للعلاقات القائمة بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. ولكن ولاية الرئيس أوباما في البيت الأبيض لم تعد تتجاوز السبعة أشهر فقط٬ والخلف قد لا يكون مستعًدا للتضحية بمصالح واشنطن الأوروبية لدواٍع عاطفية بالدرجة الأولى٬ علًما بأن واشنطن لم تخِف٬ منذ ما قبل الاستفتاء البريطاني٬ تطلعها إلى توثيق علاقتها بألمانيا وإلى حد ما فرنسا كحلفين محتملين في الاتحاد الأوروبي. وعليه من الطبيعي توقع ازدياد اعتماد واشنطن على الحليفين الأوروبيين البديلين بعد تقلص نفوذ بريطانيا في أوروبا. رغم ذلك قد يحول عمق العلاقتين الأنجلو سكسونية والأطلسية مع المملكة المتحدة دون فتورها أو انقطاعها كلًيا. ولكن على الولايات المتحدة أن تواجه تطورين متلازمين؛ أفول نفوذ حليفها التقليدي٬ المملكة المتحدة٬ وبموازاته تنامي نفوذ حليف قد تزداد الحاجة إليه في المستقبل القريب٬ أي ألمانيا. هذا على الصعيدين السياسي والدبلوماسي. أما على الصعيد الأمني فقد تواجه واشنطن صعوبات غير مستبعدة في سعيها لتطوير تعاونها مع ألمانيا إلى مستوى تعاونها السابق مع بريطانيا٬ وذلك بحكم التحفظ الألماني التقليدي حيال التدخل العسكري في الخارج٬ فإذا لم يتبدل الموقف الألماني من «التورط» العسكري في الخارج٬ قد تضطر الولايات المتحدة إما إلى تعزيز اعتمادها على حلف شمال الأطلسي٬ أو توثيق علاقاتها العسكرية مع فرنسا في إطار الاتحاد الأوروبي. إلا أن المفارقة الواجب ذكرها أن خمسينات القرن الماضي شهدت نهاية الإمبراطورية البريطانية على يد حركات الاستقلاليين في مستعمراتها السابقة. أما 23 يونيو (حزيران) 2016 فقد شهد نهاية البراعة البريطانية في التصرف السياسي.. ولكن بيد «الاستقلاليين» البريطانيين هذه المرة.
مقالات اخرى للكاتب