أجد نفسي سعيًدا على غير عادة منذ أن اكتشفت أنه في مقدوري أن أعيش حياتين مًعا. في الواقع ليس أنا فقط من يستطيع أن يحيا حياتين كل منهما في مكان وزمن آخر٬ بل كلنا نشترك في هذه الميزة٬ ولو أن الكثيرين لا يمارسونها أو لا يعرفونها لكي يمارسوها. ليس هناك من سّر خطير. تستطيع أن تعيش اليوم بكل ما فيه من تفاصيل. من البيجاما التي تشتريها لكي ترتديها قبل النوم وطوال الويك إند٬ إذا أردت٬ إلى متابعة الأحداث الجسام التي تمر بها المنطقة والعالم. ما بين البيجاما والوضع الأوروبي الراهن٬ على سبيل المثال٬ ما لاُيحصى من أحداث يومية تمر بالكلمة أو بالصورة وعلى وسائط متعددة وثرية. تعيش اليوم في كل حركة تقوم بها مهما كانت عادية٬ وفي كل حركة يقوم بها سواك من ابنك الصغير إلى كل العالم المحيط ذلك الذي تراه والآخر٬ الأكبر٬ الذي لا تراه. كله يحدث اليوم. لكن بعضنا يستطيع أن يعيش زمًنا غير زمنه. زمًنا بدأ قبله٬ أو زمًنا عاصره حين كان صغيًرا أو شاًبا. مثلاً في كل يوم أحرص على مشاهدة فيلم قديم. حيًنا هو فيلم صامت من عشرينات القرن الماضي. حيًنا من الثلاثينات٬ وحيًنا ما بعد ذلك حتى الثمانينات. هذه معايشة. تجلس أمام الشاشة الكبيرة وترى الممثلين (أغلبهم ماتوا) وهم ما زالوا ينطقون ويتحركون وحكاية ما زالتُتروى تماًما كما تم سردها قبل خمسين سنة أو أكثر أو أقل. يا للعجب! أخيًرا مددت اهتماماتي لتشمل الراديو. ذلك حدث عندما استحوذت على صورة لراديو قديم جًدا له صندوق خشبي وقطعة قماش حيث يأتي البث وأزرار تدار يمنة ويسرة. ضعه بين أجهزة اليوم الإلكترونية في معرض ما وشاهد الإقبال الكبير الذي سيحظى به. سيكون نجم المعرض. سيبدو مثل أول روبوت صنعه الإنسان٬ وذلك عندما تتم إعادة اكتشافه في عام 2044 مثلاً. هذا جعلني أرجع بذاكرتي إلى أيام الراديو وأنا صغير. لم يكن لدينا في البيت جهاز تلفزيون فكنا نستمع إلى الراديو. والدي يسمع الأخبار٬ ووالدتي تفضل المسلسلات الإذاعية٬ وأنا أتسلل إليه لأديره على برنامج «السينما في أسبوع» الذي كان يقّدمه الإعلامي فريد جبر في محطة الإذاعة اللبنانية. بعد ذلك٬ عندما حصلت على راديو هدية٬ بدأت أسمع الأغاني الأجنبية. العربية كانت كلها عواطف ملتاعة (ولا تزال). الأجنبية فيها موسيقى أكثر فرًحا وأكثر تنوًعا حتى ولو كانت حزينة. أذكر بعض المسلسلات التي كانت والدتي تسمعها. معظمها من محطات «صوت العرب» و«الشرق الأوسط»٬ كما أذكر بعض الإعلانات الإذاعية التي كان مصدرها «بي بي سي» (أيام ما كانت تبث إعلانات). أحدها يقول: «أسبرو خليه صديقك.. أسبرو خليه رفيقك.. في الآلام في الأوجاع أسبرو أسبرو أسبرو..». هذا في الخمسينات. ربما كان عمري تسع سنوات. أعيش عالمين٬ كلاهما يعني لي الكثير. أجد هذا العيش منعًشا. يجعلني أكثر قدرة على التزاوج بين الأزمنة المختلفة كما لو كنت طائًرا يرى بقع الأرض المختلفة حين يطير عالًيا. لكن إذ أكتب ذلك شاعًرا بنوستالجيا لأيام الراديو أتساءل الآن إذا ما كان بالإمكان الانتقال كلًيا إلى عالم الأمس. على أن شيًئا في داخلي يحذرني قائلاً: «لكن هل تستطيع أن تستغني عن كل منغصات الحياة الحاضرة؟». ربما لا.
مقالات اخرى للكاتب