وناجدا ليست لاجئة من بلادنا تقطعت بها الُسبل فمّدت كّفها للمحسنين. بل امرأة عابرة التقاها الأديب الفرنسي أندريه بروتون٬ في خريف ٬1928 وكتب من وحيها نًصا فريًدا. وها هي المكتبة الوطنية في باريس تناشد المحسنين لكي يتبرعوا لها بثمن اقتناء مخطوطة «ناجدا». وقد لا تكون صفة «ُمحسن» هي الأنسب للدلالة على أولئك الأثرياء الذين يوقفون جانًبا من أموالهم على رعاية الأعمال الثقافية. لقد اصطلح الغربيون على تسميتهم «فيلانتروب». كلمة مركّبة مشتقة من اليونانية القديمة٬ تعني «ُمحّب البشرية». لكن المفردة الفرنسية الشائعة هي «ميسين». وكنت أتصور أنها مأخوذة من اللفظة العربية «ُمحسن»٬ مثل عشرات الكلمات الفرنسية. لكن تبين أنها ليست من عندنا. أندريه بروتون (1896 1966 (من مؤسسي الحركة السوريالية ومحرر بيانها الأول. شاعر وناثر ومناضل ضد الفاشية. وقف مع المثقفين الذين نادوا باستقلال الجزائر. إن البيانات الأولى ليست حكًرا على الضباط الانقلابيين. فللأدب انقلابّيوه الكبار أيًضا. ومنهم هذا الشاعر الذي كان سائًرا في باريس٬ ذات يوم من خريف ٬1926 فرأى امرأة متواضعة الثياب٬ غامضة الابتسامة٬ تمشي مرفوعة الرأس٬ بعينين لم ير مثلهما من قبل. لا أحد يدري ماذا وجد فيها. ذلك أمر يخّصه. ما ندريه أنه اقترب منها وحادثها٬ وسألها عمن تكون. أجابت: «أنا الروح الهائمة». كان اسمها ليونا دالكور. لكنهاُتسّمي نفسها ناجدا. قالت إنها بداية كلمة أمل بالروسية. وأردفت: «لأننا لسنا سوى البداية». في الأيام التسعة التالية واصل بروتون لقاءاته مع ناجدا. اكتشف أن «الجمال إما أن يكونُمتشنًجا أو لا يكون». تحدثا كثيًرا وأخذا القطار مًعا إلى ضاحية قريبة٬ وتنبأت له بأنه سيكتب قصتهما. إن الكتابة هي ما سيحفظها من النسيان. وبعد سنتين٬ صدرت «ناجدا» بطبعتها الأولى المرفقة برسوم للمرأة العابرة. أما بروتون فقد واصل تنقيح النص لثلاثين سنة تالية. ونشره بشكله النهائي عام 1962 .رواية قصيرة لا تشبه غيرها٬ تنبئ عن حالة إنسانية وليدة اللحظة٬ مكتوبة بلغة متوترة مقتصدة في العواطف٬ يحكي مؤلفها عن مواقف واقعية حدثت له. كتابة تنتمي إلى الحياة أكثر مما تنتمي إلى الأدب. انتهى المطاف بناجدا في مصح للأمراض العصبية. وكتب بروتون أنه لم يحبها. لكنه كان يضجر إذا لمَيَرها. وقد يكون وجد فيها السوريالية تمشي على قدمين. وهو ناقم على مستشفيات الأمراض العصبية «التي يدخلها المرضى فيخرجون مجانين٬ مثل الذين يدخلون السجون ويخرجون مجرمين». وقد خرجت مخطوطة «ناجدا» من يد الشاعر إلى أيٍد كثيرة وانتهت ضمن مقتنيات بيير بيرجيه٬ رجل الأعمال الثري وشريك مصمم الأزياء أيف سان لوران. قبل فترة٬ وبعد رحيل سان لوران٬ قرر بيرجيه أن يبيع بالمزاد العلني كل التحف والكتب التي جمعاها مًعا. وذهبت حصيلة بمئات الملايين لصالح المؤسسة الثقافية التي تحمل اسمه. لكنه قبل أن تتشتت مكتبته٬ استل مخطوطة «ناجدا» وأبقاها خارج المزاد. إرث قومي لن يذهب إلى ثري ياباني أو متحف في أميركا. إن مكانها هو المكتبة الوطنية الفرنسية. وهو لن يهبها للدولة دون مقابل. واللفتة التي يمكنه القيام بها هي اقتراح المخطوطة بسعر مليوني يورو. مبلغ يقل كثيًرا عن الثمن الذي كانت ستحققه في المزاد. مساء العشرين من الشهر الحالي٬ اجتمع «أصدقاء المكتبة الوطنية الفرنسية» في عشائهم السنوي. إنهم مجموعة من كبار الأثرياء الذين يقدرون الطعام الجيد والمشروبات المعتقة. وحضرت اللقاء وزيرة الثقافة. ثالث سيدة تتعاقب على هذا المنصب منذ وصول الرئيس هولاند إلى الحكم. أما ضيفة الشرف فكانت 37 صفحة معروضة في خزانة زجاجية. إنها «ناجدا» بمخطوطتها الأولى التي تحمل تنقيحات أندريه بروتون وخربشاته. هل أخرج الحاضرون دفاتر صكوكهم بعد أن انتهوا من الحلوى وشربوا القهوة؟ هل جمعوا المليونين؟ ستشّد رئيسة المكتبة شعرها٬ وهي تقرأ أن مدرب فريق كرة القدم «باريس سان جيرمان» سيحصل على 22 مليون يورو٬ مقابل وقف قطع عقده مع القطريين
مقالات اخرى للكاتب