كم هي ضيقة عين ماهيش شارما وزير الثقافة في الهند. إنه يستكثر على نهرو أن يكون له متحف من طابقين في دلهي. وهو يريد تقليص المساحة المخصصة لأشهر رئيس للوزراء في تاريخ البلاد٬ ويرى أن هناك رجالاً آخرين كان لهم دورهم في استقلال الهند. وعليه فلا بد من زّجهم في متحف نهرو. كأن تلك الدولة التي تزيد مساحتها على 3 ملايين كيلو متر مربع٬ لا تجد بقعة لتشييد متحف لرجالات التاريخ. أو كأن الوزير لا يعرف أن من بين المليار وربع المليار هندي يوجد نهرو واحد. هل قلت رجالات؟ أعتذر من نساء الهند العظيمات٬ وأتساءل هل كان نهرو هو أشهر رؤساء الوزارات أم ابنته إنديرا؟ قاد زعيم حزب المؤتمر بلاده نحو الاستقلال. مرجل هائل يغلي بالأقوام واللغات والعقائد والشعوذات. فالهند كانت جوهرة التاج البريطاني يوم كانت بريطانيا إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس. ثم ذهب شاب مولود في الله آباد٬ ودرس في كمبردج٬ وتعلم كيف يخاطب الإنجليز بلغتهم وببلاغته. كان ينطق باسم مئات الملايين من فقراء شعبه٬ وله من العزم ما سّد عليه طريق التراجع حتى رفرف العلم الوطني فوق سواري الهند. ومن شوقهم لدولة مستقلة٬ لم يصبر الهنود فرفعوا رايتهم الجديدة قبل 24 يوًما من الإعلان الرسمي للاستقلال٬ منتصف أغسطس (آب) 1947. في احتفال أُقيم بمناسبة الذكرى الستين لانبثاق حركة عدم الانحياز٬ ألقى وزير خارجية الهند خطاًبا لم يأت فيه على ذكر اسم نهرو. من يخاف من الزعيم الذي حفظنا صوره مع عبد الناصر وسوكارنو وشو إنلاي؟ إن الوزير الهندي يطالب بإضاءة أسماء أخرى من أبطال الاستقلال٬ مثل سبهاش شاندرا. وهو مقاتل لم يكن مقتنًعا بجدوى المقاومة السلمية التي آمن بها نهرو ومن قبله غاندي٬ فشّكل جيًشا صغيًرا من الهنود تحالف مع اليابانيين في الحرب العالمية الثانية. وهناك قوميون من الهندوس٬ يسعى الوزير للإعلاء من ذكراهم و«تطهير» الخطاب العام من التأثيرات الغربية وإعادة الاعتبار للثقافات المحلية. ويبدو أن متحف نهرو سيكون أول ضحايا التطهير. لم يظهر المتحف بعد رحيل نهرو. فالمبنى الأبيض كان مسكًنا لرئيس الوزراء منذ الاستقلال وحتى نهاية حياته. وهو يضم الأرشيف الوطني الهندي إلى جانب تراث نهرو من صور وخطابات وهدايا. وما زال سريره موجوًدا في غرفة النوم. وكذلك مكتبه. وعلى المكتب ورقة بيضاء يستقر فوقها قلمه الحبر ذو الريشة. هل جاءت تلك الورقة من الدفتر الذي خّط عليه رسائله الكثيرة لمحبوبته إدفينا؟ في واحدة من أشهر صوره وهو رئيس للوزراء٬ يبدو جواهر لال نهرو (1964 1889) معتمًرا سدارة بيضاء٬ دافًعا اثنين من أصابع يده اليمنى في تجويف خده وفي عينيه شبهة حزن. هل كان يفكر فيها ويعرف أنها ستنال نسختها الُممضاة من الصورة الرسمية٬ وتتمعن فيها وتناجيها وستحفظها في صندوق الرسائل؟ حكاية تزدري بكل ما في الأفلام الهندية من مآس ودموع. حب يائس جمع بين زوجة اللورد لويس مونتباتن٬ الحاكم البريطاني للهند٬ وبين السياسي الذي سينتزع استقلالها من براثن خصمه القوي. ولما حاولت هوليوود تحويل القصة إلى فيلم سينمائي٬ لقيت ممانعة من الحكومة الهندية. وجرت مفاوضات لحذف مشاهد القبلات من السيناريو. ولم ير الفيلم النور. بعد الاستقلال٬ عادت الليدي إدفينا مع زوجها إلى لندن. وكان نهرو يزورها هناك٬ أو يرسل لها صناديق من المانغو٬ أو يكتب لها الرسائل التي يبث فيها شوقهلصحبتها٬ وما يعانيه من مشكلات في إدارة بلد كبير حديث العهد بالحرية. إنها الصديقة والمستشارة والمرأة التي خفق لها قلب أرمل أربعيني يحمل هموم قارة كاملة. أما قلبها فقد سكت فجأة وهي نائمة. ووجدوا تحت وسادتها آخر رسالة وصلتها من العاشق الهندي. ولم يكن اللورد مونتباتن غافلاً لكنه آثر الحكمة على التهور. وكانت زوجته قد وضعت رسائل نهرو بين يديه٬ وقالت له إنها خطابات حب روحاني بين شخصين ربط بينهما تفاهم عز نظيره بين البشر. ولم يجرؤ الزوج على قراءة الرسائل٬ لكنه سلمها بعد رحيلها٬ إلى ابنتهما التي قرأتها وطمأنته: «ليس فيها ما يشين». كتب مونتباتن في مذكراته أن زوجته طلبت أن «يكون البحر مرقدها الأخير». وقد نفذ الوصية. وفي جو صقيعي من نهار 25 فبراير (شباط) ٬1960 أبحرت فرقاطة بريطانية من القاعدة البحرية في بورتسموث تحمل نعش الراحلة. وكان على متنها٬ بالإضافة إلى الزوج٬ أُسقف كانتربري الذي تولى المراسم الدينية٬ ودوق أدنبره ممثلاً عن الملكة٬ وقائد القاعدة وكبار ضباطها. ثم وصلت إلى عرض البحر باخرة تحمل علم الهند. وكان نهرو مريًضا وغير قادر على السفر. ولعله لم يحتمل مضاضة الوداع. وعندما اصطدم خشب النعش بصفحة الموج٬ رمى ربان الباخرة الهندية باقة من أزاهير برتقالية وصفراء في اللجة٬ أرسلها العاشق العجوز. أليس الأولى بوزير الثقافة الهندي أن يضم رسائل ذلك الحب إلى المتحف؟
مقالات اخرى للكاتب