مدخل
===========
استمراراً لسلسلة مداخلاتنا في مجال تعداد العوامل الداعمة لتعزيز الامن , فاننا نتناول هنا الاهمية القصوى لتعزيز ومراقبة وتقنين الجوانب المالية لمؤسسات الدولة وحركة الاموال والتحويلات , لما لهذه الاجراءآت من فعالية في قطع شريان الحياة على قوى الارهاب والمافيات .
وسنثبت بالارقام ان ميزانية داعش لايمكن تغطيتها بالاعتماد على الموارد الذاتية وبتصدير البترول ومشتقاته , وان تلك الموارد لاتكفي لادارة معارك متواصلة في اكثر من 22 جبهة في سوريا والعراق فقط , بالاضافة الى ادارة وتمويل عشرات الفراخ التنظيمية التابعة لداعش في شمال افريقيا وفي اسيا وحتى في اوروبا .
========
اموال سائبة
=======
مما لاشك فيه ان الظروف المثالية لاي سارق او مجموعة سراق تتمثل بالفوضى المحيطة بالمكان المراد سرقته , لان الفوضى هي قنبلة الدخان الكفيلة بتعمية اثار الجريمة وتتيح للسراق ارتكاب سرقاتهم في وضح النهار .
وقد اثبتت سنن الحياة , ان لصوص الليل الذين يتسللون الى الخزائن والمحال التجارية , يعدون فقراء بدائيون اذا ماقيسوا بسراق المال العام في وضح النهار بالاوراق الرسمية الاصولية ممن يتبوؤن مناصب رفيعة في المجتمع .
ان القطاع المالي والمصرفي هو من القطاعات الخطيرة والمهمة لنهوض أي بلد ، ويؤدي الانفلات في هذا القطاع الى كوارث اقتصادية و أمنية لا حدود لها وهو ما حصل بعد سقوط نظام صدام حيث أصبح العراق مركزاً كبيراً و عالمياً لغسيل الاموال و سوقاً واسعة للمافيات العالمية بسبب عدم السيطرة على سوق المال.
ولعل اكبر دليل على ماللفوضى المالية من تأثير بالغ في نهب الثروات , هو ماحصل في العراق طيلة عقد مضى , ابتلعت فيه مئات المليارات وتم تبييض مئات اخرى , من خلال مافيات وجدت الفوضى جاهزة حاضرة , وساهمت في ديمومتها .
وقد كان للوضع العراقي المالي المزري , دوراً كبيرا في اتاحة فرص ذهبية لتمويل النشاطات الاجرامية وعلى رأسها الارهاب المنظم , حتى باتت الحركات الارهابية الناشطة في العراق منذ سقوط نظام الطاغية صدام , حركات غنية مالياً , تحرك الاموال من والى العراق بمنتهى السهولة , وهو امر غير مستغرب في بلد يرتضي فيه البنك المركزي ان يروج تحويلات مالية لتاجر يدعي على الورق انه استورد علكة للاسواق المحلية ب100 مليون دولار !!!!.
وقد تجلت الفوضى المالية في احلك صورها حين تباطئت مؤسسات بنكية عريقة كمصرفي الرافدين والرشيد في سحب الاموال والودائع في فروعها بالمناطق الساخنة , فكان ان استولت داعش على مايعادل ال152 مليون دولار, فقط في فروع هذين المصرفين في للانبار وماحواليها , وخمسة اضعاف هذا المبلغ في فروع الموصل !!!!.
وقد ساهمت في الفوضى المالية لدينا , عدم وجود جهة معنية بمتابعة حركة الاموال خارج او داخل البنوك , وعدم وجود اليات للاستشعار قبالة حركة اموال الزبائن في التحويلات المالية الضخمة , بالاضافة الى شركات الصيرفة والمصارف الاهلية والمصارف الأجنبية وشركات التحويل المالي التي تجاوزت ال 250 موسسة , والتي ساهم عدد كبير منها في تخريب الاقتصاد العراقي وفي تسهيل حركة الاموال المريبة دونما رقيب.
لقد تنبه النظام المالي العالمي (متأخراً ),الى فعالية الاجراءآت الرقابية المالية في الحد من تمدد الحركات الارهابية , والى استحالة السيطرة على العمل الارهابي من دون السيطرة على الوضع المالي في البلد, عدا عن اجراءآت الحد من الفساد المالي والرشوة .
ففي الدول المتقدمة( وحتى دول الجوار) عندما يصبح الشخص وزيرا أو مديرا أو قائدا عسكريا , توضع جميع حساباته وحسابات عائلته تحت رقابة المدعي العام ويمنع (هووعائلته) من فتح اي حساب جديد من دون موافقة المدعي العام, وعندما يتضخم حساب اي مواطن ,يقوم المصرف بأشعار الجهة الرقابية ويستدعى أو يراقب الشخص المعني ويطالب بتفسير , ناهيك عن الرقابة المالية الصارمة على جميع العسكريين والامنيين , حيث تفرض على أنشطتهم المالية والمصرفية ,رقابة مشدده من قبل جهاز الأمن العسكري.
والامر ذاته يجري على المصارف التي تلتزم بأخبار الجهاز الأمني بأية حركة أموال كبيرة , وكذا الامر مع شركات الصرافة وتحويل الاموال أيضا ,فعند وصول أو إرسال أي مبلغ من قبل شخص بأعلى من الحد المرخص به , يدق جرس الانذار في الاجهزة الرقابية , فحين يتعدى مبلغ التحويل مبلغ ال 5000 مثلاً , يلزم المحول والمحول اليه بجلب موافقات امنية معينة (وهو امر معمول به في كردستان مؤخراً , حيث يستلزم اي مبلغ تحويل يزيد عن ال1000 دولار موافقة مسبقة من الاسايش).
===============
ميزان مدفوعات داعش !!!!
===============
شئنا ام ابينا فان داعش الان قد اعلنت مسمّى الدولة , ورغم هزال الاسم الا ان الامر لايخلو من اهمية القاء نظرة جادة عن هذه (الدولة المزعومة ), فلنفترض حدلا ان شخصاً ما تلبّسته فكرة ان يصبح شيخ عشيرة , فحتى لو لم يمتلك المؤهلات الا انه سينفق اكثر حتى من الشيخ الحقيقي , من مضيف الى ذبائح الى نفقات ومظاهر مكلفة , وهو ماحصل بالضبط مع دولة داعش , فحين تلبستهم الفكرة , لم يقفوا عند حد التسمية المجردة , بل اوجدوا واقعاً على الارض يدعم ادعائهم .
فكانت لهم الان اراضي وحدود و(رعيه) ووزارات ودوائر ومناهج دراسية , وتشمل مساحة مايسيطرون عليه من اراض بما يعادل مساحات دول , ويقع تحت قبضتهم قرابة الاربعة ملايين ونصف المليون مواطن , ولهم جيش وشرطة وعلم , ولهم حربهم العسكرية المعلنة وتنظيماتهم في الكثير من دول العالم بالاضافة الى خلاياهم النائمة في اوروبا ,ولاشك من ان وضع شاذ كهذا يتطلب موازنات مالية ضخمة , سنحاول ان نتقرب من حساباتها التي تعد سر الاسرار لديهم .
فمن المعطيات المؤكدة ان جيش داعش لايقل قوامه عن قرابة ال60000 مقاتل نصفهم من الاجانب , وان هؤلاء المقاتلين يستلمون مرتبات مجزية لاتقل عن 1000 دولار شهرياً , مايعني 60 مليون دولار شهرياً .
كما ان استقدام المقاتلين الاجانب من دولهم وتكلفة موازنات شبكات التجنيد تلتهم هي الاخرى بضعة ملايين الدولارات شهرياً .
كما ان لجيش داعش هذا معسكرات تدريب حتى للاشبال واحتياجات لوجستية من طعام وملابس واسلحة خفيفة وثقيلة وعتاد ومشافي وادوات طبية وعجلات ووقود وصيانة عجلات , ونحن نتحدث هنا عن معارك حقيقية في 22 جبهة معركة في العراق وسوريا لوحدها , تلتهم مالايقل عن 60 الى 100 مليون دولار شهرياً .
وكما نعلم فان مشتريات اي تنظيم عصابي مسلح له مثل هذه السعة تكون باسعار باهضة , فشراء المواد بشكل غير شرعي (لاسيما التجهيزات العسكرية ) تتم باسعار مضاعفة ومرهقة خلافاً للشراء الرسمي الحكومي .
ونظيف الى ذلك حقيقة اخرى هامة , ان تلبّس فكرة الخلافة بداعش وضعتها امام مسؤوليات (حتى لو كانت جزئية) امام من تعتبرهم (رعيتها) وهم بالملايين , فاحتاج التنظيم (الدولة) الى دواوين (وزارات) وموظفين والى اعمال صيانة واعمال بنى تحتية (لدولتهم المزعومة ) , فمثلاً , داعش تعطي لموظفي البلدية والصحة وبعض القطاعات الخدمية الآخرى في الموصل وبعض المناطق التي تسيطر عليها , مبلغ حوالي 100 دولار شهريا قرضاً للعمال والموظفين , منذ نيسان أبريل 2015 ,اثر قطع الرواتب من قبل الحكومة المركزية عنهم , وهي تفعل الامر ذاته في سوريا منذ اربعة سنوات!!!!.
بل ان داعش توزع على منتسبيها الدواء والطحين والمحروقات. ( النفط الأبيض ,غاز الطبخ ) مجاناً , لو نفترض ان هذه الخدمات كلها تعادل 100 دولار للفرد فاننا نتحدث عن صرفيات تتجاوز مبلغ 6 مليون دولار شهريا, نزيد على ذلك ان داعش احتاجت لتثبت انها دولة امام الرعية , فاخذت ترمم الدوائر وتبلط الشوارع وتقوم بترميم بعض البيوت لتسكن المهاجرين اليها وعوائلهم.
وسعت داعش الى شراء الكثير من المفردات من السوق المحلية العراقية باسعار باهضة مضاعفة عن اسعارها الحقيقية بحكم الاضطرار , ناهيك عن دفع المرتبات المغرية لاعداد كبيرة من الجواسيس والمتعاونين والمصادر , وهي كلف هائلة .
ولنا ان نضيف التكاليف المرهقة لنفقات الخلايا النائمة التابعة لهم في دول العالم وكلفة تسليحهم ومعيشتهم وتزوير وثائقهم , بالاضافة الى الموازنات الحربية لفصائل داعش والمبايعين لها في افريقيا كبوكو حرام وبيت المقدس وكتائبهم في ليبيا واليمن وغيرها كثير
فلو جمعنا كل هذه المبالغ الهائلة واضفنا لها مصاريف وسائلهم الاعلامية وجيوشهم الالكترونية , ومصروفات امراء الحرب وزعاماتهم , لتوصلنا الى ان داعش تحتاج الى مالايقل عن المليار ونصف المليار دولار سنوياً وربما يصل المبلغ الى قرابة الملياري دولار
=========
الخديعة
=========
تداولت وسائل الاعلام ودوائر المخابرات الدولية مسألة تصدير تنظيم داعش للبترول عبر تركيا , وبالرغم من ان الامر صحيح وموثق , واصبح من المسلمات من ان داعش تستخرج البترول وتبيعه وتهرب الاثار , الا ان هنالك جهات تسعى الى تضخين الامور بقصد الخديعة , كي يظن المتلقي ان داعش تمول نفسها بنفسها وهذا خلاف الواقع تماما وسنثبت ذلك بالمعطيات والارقام .
اكد مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فيتالي تشوركين أن القسم الأكبر من تهريب النفط الذي يوفر لتنظيم داعش 1.5 مليون دولار يوميا يمر عبر تركيا.
لقد اعتمد التصريح الروسي على ان داعش تصدر مائة الف برميل يوميا بسعر 15 دولار للبرميل , وان كنا نعتقد ان السعر هذا يشتمل كلف استخراج ونقل وان قسم من المستخرج يتم تكريره للوقود الحربي ولوقود السيارات . وبالتالي فهو يصل الى قرابة المليون يومياً , اي 30 مليون شهريا .
ان أكبر الحقول العراقية التي بيد داعش هما حقلي القيارة (33) بئر وحقل نجمة (89) بئر, وان عمق الحقلين حوالي 650 قدم وتربتهما غير صالحة , بسبب تراكمات شديدة الحموضة والكبريت , مما جعلهما الأقل جدوى بين جميع حقول العراق , وفي عام 1990 تركتهما وزارة النفط , بسبب فقدان الجدوى الاقتصادية ورداءة المنتوج الذي يستخدم فقط لإنتاج الأسفلت.
اما في الجانب السوري فتسيطر داعش على حقول تيم وكونيكو بمنطقة دير الزور السورية وهي أقل كفاءة من الحقلين العراقيين الآنفي الذكر .
يتم نقل الانتاج النفطي الداعشي عبر الصهاريج التي تتسع الى 36000لتر , وبقياس برميل الخام عالميا (159) , فستحتاج داعش الى 440 صهريج ناقل , يناوبه 440 اخرى لغرض ديمومة التعبئة والانتاج , فيكون المجموع 880 شاحنة .
فمابالك اذا علمت ان التصريحات الرسمية للقوات الروسية وقوات التحالف تتحدث عن تدمير قرابة ال900 صهريج (روسيا ادعت تدمير 500 صهريج, وادعى التحالف الدولي تدمير 400 صهريج) اي ان على داعش تصدير بترولها على البغال بعد ذلك !!!!.
فلو سلمنا بدقة ارقام كميات الانتاج بلا عوائق ,وان الصهاريج مستمرة ولم تتأثر عملية التصدير بالغارات الجوية , فان موازنة النفط المصدر كله لاتسد في افضل الاحوال 20% من موازنة داعش السنوية .
=======
خلاصة
======
ان ماتجري التعمية عليه كما نرى هو التغطية على الدعم المالي الذب توفره بعض الدول لداعش , وتريدنا ان نصدق ان تصدير 100 الف من اردأ الانواع , بعائد مليون دولار يكفي لجيش جرار ومعارك طاحنة على 22 جبهة وباكثر من دولة , وبرعايا بقرابة الاربعة ملايين ونصف المليون .
تدور كل أموال الارهاب في العالم من خلال مجموعة بنوك ومكاتب تحويل مالي وصيرفة
ونحن نحتاج في العراق الى تحديد جهة مسؤولة عن حركة الاموال في البنوك وشركات الصرافة , فمؤسسة الأمن الاقتصادي في الداخلية واخرى في الأمن الوطني معنيتان بسلامة البضائع و صلاحيتها بعيدا عن حركة المال, فالفوضى المالية توفر بيئة داعمة تشجع حركة الارهاب وغسيل الاموال , ونحتاج قبل كل شيء الى التيقن من خطورة التسيب الرقابي المالي والله الموفق.
مقالات اخرى للكاتب