من المؤكد أن رئيس مجلس الوزراء يمتلك أكثر من جهاز تلفزيون. ومن المؤكد أنه يشاهد كيف تتعامل الحكومات مع الكوارث التي تتعرض لها بلدانها. وأكيد أنه تفرج مثلنا على ملك إسبانيا البالغ من العمر 75 عاما، وهو يعتذر دامع العينين لشعبه عن حادثة القطار السريع التي راح ضحيتها 67 قتيلا، البعض منهم لا يحمل الجنسية الإسبانية.. وأن الرجل الذي يعاني من آثار عملية جراحية في عموده الفقري ذهب بنفسه إلى مكان الحادث ليشد من أزر عمال الإنقاذ قائلا لهم: "إنكم قدمتم النموذج الحي للمواطن الإسباني".. فيما الحكومة الاسبانية تعلن الحداد ثلاثة أيام وتلغى واحدا من الاحتفالات الدينية، وحتما ان القائد العام للقوات المسلحة أدار مفتاح الراديو امس ليستمع إلى مذيع الأخبار يقول: ان المحكمة وجهت 99 تهمة بالقتل لسائق القطار الإسباني المنكوب.
67 ضحايا قطار إسبانيا السريع، وقفت العائلة المالكة الإسبانية ومعها الملايين تذرف الدموع لأجلهم، فيما رفض قادتنا الأمنيون الأشاوس عبور عتبة البرلمان ليجيبوا عن سؤال: لماذا في شهر حزيران الماضي فقط، قتل 761 عراقيا، ولماذا تتحول بيوت العراقيين إلى مقابر جماعية؟
في الأيام الماضية عاشت إسبانيا بأجمعها ملحمة بشرية في الدفاع عن قيمة الحياة، كان فيها المتضررون من نزق سائق القطار، يعيشون الأمل بأن ساستهم ومسؤوليهم لا يمكن ان يتخلوا عنهم.
وأنا أتابع حادثة قطار إسبانيا كنت أقول لنفسي: ما الذي سيفعله ساسة إسبانيا المشغولون باستجواب رئيس الوزراء عن مصير تبرعات قدمها رجال أعمال إلى حزبه قبل الانتخابات. فقدم لي الملك الإسباني العجوز الجواب الشافي، من خلال دموع تقول للشعب:لاخيار، إما تحمل المسؤولية أو الذهاب في عتمة النسيان. فيما مسؤولونا يؤكدون لنا كل يوم ان لا أمل في الخروج من ظلام العنف والقتل على الهوية، والمحسوبية واللصوصية.
اعتذار ملك إسبانيا يقول،إننا لن نسمح بفقد مواطن واحد. فيما نحن نعيش في ظل ساسة مصرين على ان ينقلونا من أحضان الحياة إلى أحضان الخوف والموت والدمار..
سائق القطار الإسباني محاصر بـ99 تهمة، فيما سائق قطارنا يعيش مأزوما يتمادى في الإنكار، ويستسهل إلقاء المسؤولية على غيره، ويعلق الفشل على الشماعة تلو الشماعة، حتى تصير مهمته البحث الدائم عن الشماعات.
التفجيرات اليومية شماعة.. المؤامرات التي في تحاك في الظلام شماعة..الأجندات التي تعيق تنفيذ الخدمات شماعة، شماعات يتشبث بها سائق القطار العراقي هو ومقربوه.. فنراهم في كل أزمة يطلقون سيلا من الاتهامات المبهمة.. يريدون ان "تلتهي" الناس بأحاديث مطاطية، عن الفشل الذي لا يتحمله أحد، وعن السعادة التي كانت في انتظار الشعب لو ان الكتل السياسية الأخرى اختفت من الوجود، وعن الشهرستاني وخداعه، والميليشيات التي تحرس السجون، وعن الذين يسرقون أموال الشعب بغفلة من سائقنا الهمام، الذي نراه متردداً ولا يجيب حين يقال له، بأن إجراءات لابد ان تتخذ ضد كل من يثبت خرقه للقانون، وأن عليه أن يقدم معلوماته إلى القضاء لمحاسبة كل من تآمر على دماء العراقيين وثرواتهم.
لكن لا أدلة ولا هم يحزنون، وسائق القطار بيده مصائر الناس، يريد ان يصور لهم ان عجزه عن تقديم الخدمات وتوفير الأمن، يعود إلى حكومة الشراكة، فسائق القطار يذرف الدموع أمام الفضائيات، لأنه لا يملك سلطة على مؤسسات الدولة، كما أخبرنا مؤخرا، وبالتالي فأفكاره في بناء دولة متطورة، لا تجد من يطبقها بأمانة وحرفية.. فمعظم المؤسسات والوزارات تتآمر عليه. أليس هذا عذراً أقبح من كل الذنب؟!
مئات القتلى كل شهر، وسائق القطار وجماعته يروجون لإنجازات وهمية من عينة "الخروج من الفصل السابع " وإجبار الأمريكان على مغادرة العراق. حتى كاد البعض من المقربين، يطالبنا بأن نحتفل كل يوم، لأن السائق كان شديد البأس والعزم وهو يقول لأوباما، لا مكان لك في أرضنا المقدسة.
دعك مما جرى بعد ذلك من كتابات وهتافات بحياة السائق ومقربيه، لكن كيف تسنى لك أيها الراكب المسكين ان تصدق أن هناك مؤامرات تحاك في الظلام لإجهاض التجربة الديمقراطية الرائدة، وأن سائق القطار الذي تحول بين ليلة وضحاها إلى أهم قائد جيش في تاريخ المنطقة، يمتلك خبرة عسكرية تسمح له بإدارة المعارك ووضع الخطط دون الاستعانة بوزراء للدفاع والداخلية والأمن الوطني.
والآن دعونا نتساءل بعد كل ماجرى الأسبوع الماضي، هل سائق القطار يحترف البحث عن الشماعات لطرحها علينا كأي مأزوم يختار الحل الأسهل.. أو أنه لا يملك قراره كما يقول؟ في الحالتين هو مدان، وما تحدث به مؤخرا هو دليل إضافي على مزيد من الفشل.
عودوا إلى كلمات ملك إسبانيا.. ودققوا جيدا في آخر أحاديث سائق قطارنا وهو يبرر الفشل والإخفاقات، واسألوا أين نحن، بعد عشرة أعوام من الكلام عن الرفاهية والسيادة والمستقبل المشرق، وحكومات الشراكة، والمحاصصة اللطيفة، وسيادة القانون!