لقد كان المجتمع العراقي مؤهلاً لقبول كل تلك المظاهر السلبية وعدم مقاومته لها، بل كان على استعداد للانجرار معها وتشديدها والغوص معها في عمق المستنقع الجديد. إنها نتيجة منطقية لمجمل الأوضاع التي مرَّ بها المجتمع خلال أكثر من خمسة عقود، والتي تجلت في سيادة الدكتاتوريات القومية والبعثية الشوفينية والعنصرية وممارسة أقصى أنواع الإرهاب الحكومي وخوض الحروب الداخلية والخارجية، وفرض الحصار الاقتصادي الدولي الطويل الأمد وما اقترن به من مجاعات فعلية وفقر مدقع وفاقة فكرية وجهل مريع وغوص المجتمع في متاهات الدين المسطح المشوه لعقول الناس واستمرار ذلك لعقود عديدة، بحيث انهارت الكثير من القيم والمعايير الإنسانية النبيلة التي كان المجتمع يتمسك بها ويمارسها قبل ذاك.
من هنا يمكن تأشير خمس قضايا جوهرية هيمنت على المجتمع طوال السنوات التي أعقبت إسقاط الدكتاتورية البعثية الصدامية وميزت الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية والعلاقات الدولية، وأعني بها:
نظام سياسي طائفي وأثني سائد بقيادة الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية وبمشاركة الأحزاب الإسلامية السنية والتحالف الكردستاني، يعتمد المحاصصة في توزيع السلطات الثلاث عملياً، وفي ذات الوقت تخوض قواه الحاكمة الصراع الدموي على الموقع الأساس في السلطة والمال والنفوذ والتأثير الاجتماعي.
سيادة ظاهرة الفساد بحيث أصبحت السمة المركزية التي تميز الدولة والمجتمع وعموم الوضع بالعراق بعد ظاهرة الطائفية السياسية ومحاصصاتها المخلة.
سيادة الإرهاب الدموي الذي تخوضه المنظمات الإسلامية السياسية السنية منها والشيعية ضد بعضها، وتسببها في موت عشرات الآلاف من الناس الأبرياء سنوياً، وانتقال الصراع والنزاع إلى القاعدة الجماهيرية.
عدم استقلالية النظام السياسي العراقي وخضوع القوى الحاكمة فيه لإرادات خارجية، سواء أكانت إيران بشكل خاص، أم للسعودية وتركيا ودول الخليج، وبهذا جعلت العراق ساحة فعلية للصراع الإقليمي والدولي وعواقبه الوخيمة على الدولة والمجتمع ومستقبل الشعب والبلاد.
وجود احتلال لجزء من أرضه وشعبه من جهة، ووجود عمليات إرهابية واسعة ومستمرة ضد أبناء وبنات الشعب من جهة أخرى، وحرب طاحنة لتحرير أرض وشعب العراق من المحتلين الأوباش من جهة ثالثة.
إن هذه الظواهر هي وليدة منطقية للاحتلال الأمريكي للعراق ودوره في إقامة النظام السياسي بالعراق، كما إن الإرهاب والفساد هما وجهان لعملة واحدة، أحدهما يشترط الآخر ويستكمله ويغذيه ويحافظ على ديمومته ويستمد قوته من طبيعة النظام السياسي وسياساته المناهضة لمصالح الشعب العراقي.
هذا الواقع العراقي أنتج وضعاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وبيئياً وثقافياً وتعليميا رثاً، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من مضامين، وعلاقات اجتماعية وإنسانية رثة، كما أنتج بدوره فئة اجتماعية رثة تقف على رأس النظام وتقوده وتنشر الرثاثة والعفونة في سائر نواحي الحياة العراقية وتعمل على ديمومة هذه الرثاثة واستفحالها. وهي التي تسببت وما تزال تتسبب في كل ما يعانيه الشعب العراقي منذ سقوط الدكتاتورية البعثية وإقامة الاستبداد السياسي الطائفي الأثني بالبلاد حتى الآن.
لقد جرى توزيع السلطات على النحو التالي: السلطات الثلاث تكون القيادة بيد الشيعة ثم يأتي الكرد والسنة. وأعطي للتحالف الكردستاني رئاسة الجمهورية، ولتحالف الأحزاب السنية رئاسة مجلس النواب، ولتحالف الأحزاب الشيعية رئاسة السلطة التنفيذية. كما وضع الدستور العراقي كل السلطات التنفيذية بيد رئيس الوزراء، وحرم رئيس الجمهورية من أي سلطة فعلية، سوى التوقيع على ما يقرره مجلس الوزراء ومجلس النواب عملياً. وهذا التوزيع للسلطات والمسؤوليات لا ينسجم بل يتناقض مع مضمون الدستور العراقي وبنوده ومع أسس المجتمع المدني الديمقراطي.
وهكذا تمكن رئيس الوزراء من التحالف الشيعي أن ينفذ سياسية طائفية ضد القوى السنية والكردية، وتجلت في تعزيز مواقع الأحزاب والقوى الشيعية في وزارة الخارجية والداخلية والأمن الداخلي والتعليم، إضافة إلى الهيمنة على الهيئات المستقلة رغم كونها غير مرتبطة برئيس الوزراء بل بمجلس النواب وتهميش دور الجماعات الأخرى في مجلس الوزراء. وإذ بدأت هذه السياسة الطائفية المتشددة في فترة حكم إبراهيم الجعفري، فإنها تفاقمت وتكرست في فترة حكم نوري المالكي الأولى (2006-2009)، ثم اشتدت بما لا يقاس في الدورة الثانية من حكمه 2010 حتى إزاحته عن السلطة في صيف العام 2014. وفي هذه الفترة تجلت بالعراق المأساة والمهزلة في آن واحد، بفعل السياسات الطائفية المتطرفة التي مارسها نوري المالكي وقاد البلاد إلى الحضيض الذي هو فيه الآن. فما هي السياسات التي مارسها نوري المالكي والتي جعلت من العراق مستنقعاً طائفياً نتناً، وارضية أكثر خصوبة للصراعات والنزاعات الطائفية والقومية، وفسحت في المجال لغزو العراق في الفلوجة قبل غزو متوحشو داعش للموصل؟
مقالات اخرى للكاتب