طالعتُ، بفيض الأسى، المقال الموسوم ( ماذا بعد خراب اليصرة؟) بقلم المواطن البصري طارق عبد الأمير، المنشور في جريدة (الزمان) البغدادية ليوم 20 الحالي في ركن (رأي المواطن)، وبما أني من أبناء هذه المدينة التي انهالت علي محافظتها النكبات والمصائب من داخلها ومن جيرانها، بعد أن كانت ـ حتى أواخر العقد السابع من القرن الماضي ـ تُنعَت ب ” ثغر العراق الباسم”، وكانت زهيّة بمناظرها الخلاّبة، وبهيّة بناسها المتّسمين بطيبة نادرة آنئذٍ وما برحت غالبيتهم كذلك، كما امتلك غالب سُكّانها وعيًا ذا مستوى أرفع قليلاً من مستوى الوعي في المحافظات الأخرى، وتميّزت بتعايش الأثنيات بتآخٍ وتحابب قلّ نظيرهما في محافظات الوسط والجنوب؛ فقد داهمني الإكتئاب الشديد الذي استدرّ عبراتي، لِما آلت إليه أوضاع وأحوال محافظة هذه المدينة من زراية وإهمال فظيع متجنٍ إلى حدٍ فاق الحدود الدنيا من التحضّر والتمدين والعيش الكريم الوسط، والقيام بواجبات المسؤولين الإداريين والأمنييين والتربويين والصحيين وبعض رجال الدين، وخصوصًا أحدهم من خارج المحافظة. يصوّر تقرير المواطن البصري سوء الأحوال التخريبية في المحافظة عمومًا، وفي المدينة خصوصًا بشكلٍ يفوق مثيلها في محافظات الوطن كافّة، ويتجاوز المسموع والمقروء عنها منذ عدّة شهور. فأيّ اعتبار بقي لمقولة الحديث الشريف في شأن حُسن الإدارة، ومسؤولية الرؤساء عن مرؤوسيهم عباد الله ـ جماهير الشعب ـ الذين يكدّون ويكدحون لصالح الرؤساء أنفسهم ولصالح الشعب قاطبة، بموجب هذه المقولة الذهبية (كلّكم راعٍ، وكل راعٍ مسؤول عن رعيّته). أهكذا تؤّدّى المسؤولية بإيصلل مستوى عيش الأهالي” الرعيّة” إلى مستوى الحضيض، وإيصال العمل وأداء الواجبات إلى الدرك الأسفل؟! ما هذه القسوة لدى الإداريين والمسؤولين والموظفين ورجال الأمن، وعلى الأخص لدى محافظ البصرة المرشّح والمزكّى والموصى به من السيّد عمّار الحكيم؟! أهكذا يقول الكتاب، أم ينص الشرع، أم يوحي الضمير، أم يستوجب يمين الإخلاص؟! وهل بلغ الضمير فيهم إلى هذا الحد من الخدر أو الشلل أو الموات؟! فما جدوى بقائهم في مناصبهم بعدُ، ما داموا يتسببون عمدًا في إلحاق الضرر والأذى والخُسف والظلم والفساد والإفساد والتخريب إلى هذا القدر من التدنّي المزري وطول هذه الأعوام العجفاء التي قبضوا خلالها أضخم الرواتب علاوةً على دخولهم من السحت الحرام؟ مع كل هذه ا لمساوئ والذنوب، لا يُعزَل مرتكبوها ولايُحاكَمون ولا يُعاقبون، فأيّ طراز من الحكم والإدارة هذان؟! هل حقًا هم يتّقون الله كما يتوجّب عليهم إيمانًا وخُلُقًا؟ وهل فعلاً تحمل راية الوطن كلمتَي (ألله أكبر)؟ أم هذا رياء ونفاق يستحقان عقاب الله وغضبه؟ هل تبخّر الإخلاص، وتلاشى أداء العمل والواجبات بأمانة ونزاهة وحرص، فغدت التعاسة في البصرة شاملة، وأمسى البؤس سائدًا أنحاء المحافظة جمعاء، بدلاً من ان يسود الرضى والإكتفاء في تلبية الحاجات الضرورية للبقاء، وإدامة عافية الأبدان، وصحة العقول، وضبط الأمن، ونحقيق الإنصاف، وبذل الحدب على ذوي الحاجات والفاقة، ومراعاة ذوي الكفاءات والمهارات، واستخدام الأيادي العاملة لأبناء المدينة والمحافظة قبل غيرهم من أبناء المحافظات الأخرى، وبدلاً من إستيراد وتشغيل عمّال أجانب ! يبدو أنّه قد غاب عن ذهن هؤلاء سوء العاقبة في الدنيا والآخِرة.
** غدت البصرة حاليًا كإمرأة تلاشت قسماتها الجميلة، غِبّ ارتحال بعلها البريء، مقتولاَ غدرًا، وموتِ نجلها في حادث تفجير سيّارة مفخّحة، وبارحها شقيقها مهاجرًا إلى فنلندا بلاد الثلج، وغابت عنها شقيقتها مختَطفة أو مسبيًة. فارتدت لباس الحِداد، وترك الدمع المتواصل على وجنتيها خطوط التجاعيد بعد أن كان وجهها أسيلاَ صبيحًا قبل أن تغدو أرملة تنتابها الفواجع المتلاحقة، حتى أمسى الفقر لها رفيقًا، والتهميش ملازمًا واللامبالاة مِمن حولها ، حيث سكناها في خَرِبة تنعق على بقاياها الغربان، وتؤمّها الأبوام.!
مياه الشط
{ مياه شربها باتت شديدة الملوحة رديئة الطعم، ومياه شط العرب زادت ملوحته وتضاعف تلوّثه من جرّاء رمي قضلات منازل بيوت الجارة إيران والنفايات النووية السامّة المميتة المزاحة إلى نهر كارون الذي يصب في شط العرب عند منطقة عبدان/المحمرة، حتى ترسّب في قعر شط العرب عشرون طنًا من مواد رئبقية أماتت أسماكه وأسماك سواحل الكويت. هذا علاوة على طغيان المد البحري المالح على شط العرب مرتين في اليوم من دون أيّ معالجة لتقليل هذه الملوحة وعدم مطالبة إيران بالكف عن رمي الفضللات والنفايات الإشعاعية والسامة في نهر كارون. ولما استُهلّت عملية الإصلاحات التخديرية وغير الجذرية ومعظمها لم ينفّذ أصلاً ، جاءت ـ مع ذلك ـ خالية من معالجة واحدة من هذه العيوب الشائنة والخطيرة في مياه البصرة، وكأنها لا شيء!
** يشكو أهالي البصرة كثيرًا من سوء وشبه انعدام الخدمات العامة، وانسداد المجاري في الشتاء، وانغمار شوارعها بمياه الأمطار الي تشكّل بِركًا عديدة فتتسرب مياهها إلى المساكن، ومع كثرة هذه التشكيات من أعوام، لم تلقَ من المسؤولين إلا الأذن الصمّاء. فمرحى بمثل هؤلاء المسؤولين في البصرة !
** أما نهر العشّار الذي زال رونقه وبهاؤه، فقد غدا مستودعًا آسنًا للنفايات التي تقزّز النفس وتزكم الأنوف، واختفت من المشهد “ساعة سورين” التي كانت مطلّة على الجسر الحديدي الصغير الذي يربط شارع النهر بشارع المغايز أأو سوق الهنود.
** ألأزقّة والمقاهي تلوح للناظر مكتظّة بالعاطلين عن العمل، وعسير جدًا أن يحصل المواطن البصري على فرصة عمل من الشركات التفطية العاملة فيها، في حين تُمنح فرص عمل لعمّال أجانب مستوردين او لمواطنين من محافظات أخرى، ويُحرم خرّيجو أهالي البصرة من كل ما يؤهّلهم لرفع مستواهم المعيشي الواطئ.
{ يعاني البصريون من أزمة حادّة في السكن، فأدّى ذلك إلى تضاعف عدد الصرائف عن ذي قبل بشكل ملحوظ، وباتت تُدعى الآن ـ تلّطفًا واقتباسًا من القاهرة المصرية : ” ألعشوائيات” !
{ ألشوارع الرئيسة فقط تحظى بالتنظيف، أما الشوارع والأزقّة الداخلية، فملأى بالأزبال والنفايات والأنقاض.
** كانت معامل ومصانع الحديد والصُلب والبتروكيماويات والورق وغيرها، موئل وملاذ العمال الفقراء البصريين، لكنها توقفت في أوج أعوام الفساد الكالحة، وأضحى أنفار عديدون من عمالها لا يقبضون أجورهم إلا مرة كل ستة أشهر، أو اعتبار بعضهم فائضين عن الحاجة، أو أن يُحيلوا أنفسهم على التقاعد !
تعرّضت البصرة للتخريب والتدمير والنكبات أكثر من مرّة منذ القرن التاسع الميلادي حتى الآن، وأشدّ هذه النوائب هولاً وضررًا كانت نائبة ثورة الزنج التي صارت مضرب المثل (بعد خراب البصرة !). فحوادث هذه الثورة الهمجية المخرّبة دامت 15 عامًا (868 – 883م) وكان من عوامل ديمومتها الطويلة: المساعدة التي قدّمها لها قرامطة الكوفة، وهم قوم من الباطنية، قضى عليهم الخليفة العباسي (المكتفي) في عام 906م. (أنظر الموسوعة العربية الميسّرة). وفي عقود القرنين السابع عشرـ الثامن عشر عانت إمارة (أفراسياب) في نواحي البصرة من غزوات سلب ونهب واجتياح من الفرس الإيرانيين بغية السيطرة عليها، إنتهت بإخفاق الغزاة واندحارهم. وما أصاب البصرة من تخريب وتدمير في الزرع والضرع والحضَر والمَدَر إبان أعوام الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980 ـ 1988 ) فاق ـ حجمًا ونوعًا ـ الدمار والخراب اللذَين أصابا محافظات العراق الأخرى، إذ قلّما انصرم يوم خلال هذه المدّة من غير أن تنهال الصواريخ الإيرانية على بقاع محافظة البصرة.ويبدو أن الضيم والنكبات الآنف ذكرها التي ألحقها أعداء غرباء عن أهالي البصرة الأصلاء لم تكن كافية، بل تألّب عليها للإيذاء والإضرار والإفساد في كل جوانب العيش زُمر جانية من بني قومها وجِلدتها، وخصوصًا من رؤساء وإداريي حكومتها المحلية وحكومتها المركزية منذ هجوم موجة الغزوة الثلاثينية الغاشمة في عام 2003 حتى الآن؛ مع انها صمدت قي أثناء الموجة، وقدّمت ضحايا وشهداء في صدّ هذه الموجة قرابة أسبوعين ( 20/3- 2/4/2003) حتى امتلأت أجواؤها وتربتها بإشعاعات اليورانيوم المنضّب، ويقاسي من تلوّثها هذا أشد المقاساة سكّانها وزرعها وماشيتها. فعمّتها المفاسد والمظالم والإهمال في كل مرافق الحياة، ومن دون أيّ اعتبار لكونها الرافد الرئيس لواردات خزينة الدولة، ومن دون تقدير لجديّة العاملين فيها لتحقيق إستمرارية تدفّق هذا المورد الحيوي الغزير، لكنّ واقعها المزري ينطبق عليه المثل : ” كالعيسِ في البيداءِ يقتُلُها الظما، والماءُ على ظهورها محمولُ” . فما أظلمكم يا حُكأم ومسؤولون وإداريون ! ومرحى، مرحى لرعاة وحماة مصالح الشعب في المحافظة والعاصمة، ولأعضاء البرلمان الهمام (!) الذي لم نسمع من أركانه وصفوفه في يوم ما كلمة واحدة تنافح عن مظالم ومثالب البصرة، أوتطالب بتحسين أوضاعها ، وتخليصها من بؤسها ويأسها، بعذ أن بُحّت حناجرها من المطالبات، ويئست من الأنصاف وتلبية حقوق ناسها المهضومة.ها إنّ أبناء البصرة يسمعون أنين وصيحات نخل أبي الخصيب وكردلان ومهيجران تستغيث، وفد مالت رؤوسها نحو الثرى، واحدودبت سيقانها، طالبة الرعاية والعناية والعلاج، قائلة بصوتٍ عالِ سمعتْهُ أذني : ” أعيدوا إليّ مجدي وبهائي وزهوي كما كانوا في سابق عزّه في كل بقاع البصرة وشقيقاتها، مدن موطني الكبير، أرض السواد على ضفاف الفراتين والشط الحبيب، فلن يعود العراق إلى سابق عزّه وبهائه حتى يرى أهلُه وشعوبُ الأرض أن النضارة والبهاء قد عادا إلى النخل كما كانا حتي نهاية ستينات القرن العشرين. ومن ضفاف شط العرب عند التنّومة والسِيبة والمحَولة تصاعدت آهات وزفرات قائلةً : في عهود الظلام العثمانية، وفترة الإنتداب البريطاني ، وعقود العهد الملكي وأوائل سنين العهد الجمهوري، كانت الفيحاء أبهى كثيرًا مما هي الآن في بؤس نخلاتها، وشحوب ضفاف شطّها، فقد غابت البهجة والنضارة والحركة عن موانئها ومراسيها العديدة وأشرعتها وزوارقها وعابرات المحيطات التي كانت تؤمّها بالبضائع وتغادرها محمّلة يصناديق التمور وجلود وعظام الماشية، وبالعفص والشعير إلى موانئ الغرب، في حين كانت الناقلات النهرية (الدُوًب) تنقل اليقطين الأحمر وخصاصيف التمر إلى البحرين وما جاورها. فلأجل كل هذا البؤس والخذلان والتقصير الجسيم، والإهمال المتجنّي، يرفع العراقيون عمومًا أصواتهم، وخصوصًا المتظاهرون المنادون بالإصلاح الجذري وبمحاسبة ومعاقبة المقصّرين والمذنبين طويلاً، صارخين: من يُنـــقذ البصرة من مخرّبيها ؟!
مقالات اخرى للكاتب