لم يشهد العصر الحديث عالماً كالسيد محمد باقر الصدر جَمَعَ بين الاصالة والمعاصرة، والعمق العلمي والاسلوب الحضاري، والمسيرة الاجتهادية والنهاية الاستشهادية.
عالم لم يكتفِ باصدار فتوى ضد الماركسية و الرأسمالية، بل كتب نقداً علمياً لهما لم يسبقه اليه أحد (فلسفتنا واقتصادنا)، ولم يكتف بنقد النظام الرأسمالي الربوي بل كتب اطروحة (البنك اللاربوي في الاسلام)، ولم يتفرج باكياً على انتشار الالحاد، بل قارع الاسس الفكرية للالحاد فكتب (الاسس المنطقية للاستقراء) أثبت فيه ان القاعدة النظرية في تحصيل ونمو العلوم كافة هي نفس القاعدة النظرية للوصول الى الايمان بالله، فاذا رفضناها انهارت العلوم وانهار الايمان بالله، واذا قبلناها اخذنا بالعلوم وبالايمان بالله.
ولم يكتف السيد الصدر بنقد النظام التعليمي في الحوزة العلمية بل كتب بنفسه - بمنهج حديث- كتاباً في أهم علوم الحوزة(حلقات اصول الفقه).
ولم يكتف بالتمنّي في تطوير المؤسسة الدينية (المبنية وفق اطر تقليدية عاجزة عن مواكبة العصر) بل وضع اطروحة المرجعية الرشيدة فاخرجها من قوقعة شخص المرجع وحاشيته الى فضاء مؤسسة لا تنهار بموته، بل تبقى قائمة بعد وفاته ويحل محله مرجع آخر ترشحه شريحة واسعة من علماء ومثقفي الشيعة ضمن رؤية حضارية تجمع بين شروط الفقه ولوازم القيادة ضرورات العصر.
وبعد انتصار الثورة الاسلامية بقي علماء ايران حائرين في وضع دستور لدولة اسلامية عصرية، وتائهين في ادارة مؤسساتها المصرفية الربوية، فبادر السيد الصدر بكتابة اطروحة مبادئ الدستورللجمهورية الاسلامية الوليدة، كما كتب اطروحة اسلامية لادارة نظام مصرفي بدون ربا، وقد تم اعتماد الاطروحتين (للدستور والبنوك).
***
تشبه مأساة السيد الصدر في بعض وجوهها مأساة جده امير المؤمنين الذي اشتكى من الدهر الذي نزل به حتى صار يقارن بغيره فيقال: علي ومعاوية.... بل اكثر من ذلك، صار السيد الصدر هدفاً لقتل فكره - بعد قتله- في مخطط جهنمي سوف يتضح لنا بعد قليل.
لماذا اصبح فكر السيد الصدر في دائرة الاستهداف للمخطط الجهنمي؟
لقد حدث ذلك بفعل عاملين اساسيين:
العامل الاول: خذلان الاتباع
العامل الثاني: هجوم الرعاع
لم يكن هجوم الرعاع ليؤثر على قمّة كالسيد الصدر لولا خذلان الاتباع، فلنبدأ بخذلان الأتباع أوّلاً قبل هجوم الرعاع.
***
استشهد السيد الصدر تاركاً وراءه ثلاثة اصناف من الاتباع هم:
* علماء ومجتهدون
* مثقفون رساليون
* ناشطون سياسيون
ومع التداخل بين هذه الاصناف الثلاثة، ومع تفاوت حجم ودور كل صنف، يمكن القول ان اتباع السيد الصدر كانوا اوسع شريحة من الاتباع تركها اي عالم اخر بعد وفاته.
لكن المؤسف ان هذه الشريحة الواسعة من الاتباع (والتي تبوّأ اكثرُها مواقع عالية في المجتمع والدولة) لم تقم بواجب الوفاء للسيد الصدر كما ينبغي، فقد انصرف كل صنف الى شؤونه في الميدان الذي فتحه له سقوط الدكتاتورية، فانشغل صنف بدروسه وصنف بهمومه السياسية وصنف بهمومه المعيشية، ونَمَتْ في ظل شجرة السيد الصدرطحالب، وعلى جذعها فطريات، وتساقطت الكثير من ثمارها دون ان
يجنيها احد، وتطايرت اوراقها بفعل رياح الخريف، وعشعشت بين أغصانها غربان.
***
انشغل اتباع السيد الصدر بصورة عامة بشؤونهم ولم نلحظ منهم وفاءً له يحيي نهجه أويواصل مسيرته او يجسّم نموذجا له. هذا بالرغم من ان اتباع السيد الصدر اصبحوا – في ظل الواقع الجديد- يملكون من الامكانيات المادية والمعنوية الشيء الكثير لو ارادوا ان يقوموا بواجب الوفاء لمن وصلوا باسمه الى ما وصلوا اليه.
ولكي لا يكون الكلام غائماً أو قابلاً للتفسيرات المختلفة نطرح الاسئلة التالية:
* هل قام احد العلماء من تلاميذه او أحد السياسيين من اتباعه بطبع كتبه ونشرها ؟
* هل أسس احد العلماء من تلاميذه او أحد السياسيين من اتباعه مركزاً ثقافيا او معهدا علميا يتبنى نشر فكره ؟
* هل قام احد العلماء من تلاميذه او أحد السياسيين من اتباعه بعمل خيري كبناء مستشفى او مدرسة او دار ايتام او مركز بحوث أو...أو.... أو أي مشروع خيري باسمه؟
* هل فكّر احد العلماء من تلاميذه او أحد السياسيين من اتباعه بتبني، او دعم، او مساندة، او معاونة، او تشجيع من فكّر باحياء فكره ونهجه (وهم كثيرون ممن اختاروا العقل حين قسّم الله العقل والمال)؟
* هل أسس احد العلماء من تلاميذه او أحد السياسيين من اتباعه مشروع بناء شريحة من الكتاب الذين يقتفون اثر السيد الصدر في التفكير والتأليف لكي يصبحوا في المستقبل روّاداً لمدسته الفكرية واستمرارا لها؟
الجواب على هذه الاسئلة واضح....فبالرغم من وصول العديد من تلاميذه الى سدة المرجعية، وبالرغم من انتماء كل التيارات السياسية الشيعية الى السيد الصدر بشكل وآخر، فانه لم يقم احد منهم بأي مشروع يخلد ذكره وفكره.
ولكي اكون واضحا اكثر أقول:
* ان الكتل الاربعة (حزب الدعوة والتيار الصدري والمجلس الاعلى وحزب الفضيلة) ينتمون جميعا الى السيد الصدر (بأشكال مختلفة).
* وان هذه الكتل الاربعة جميعا تغلغلت في مفاصل السلطة بأشكال مختلفة.
* وانها جميعاً اصبحت تملك مناصب عالية ومؤثرة في البرلمان او الحكومة او مؤسسات الدولة الاخرى.
* وانها جميعا اصبحت تملك من الثروة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
فماذا فعلت من واجب الوفاء للسيد الصدر الذي وصلت باسمه الى ما وصلت اليه؟
هل انشات مؤسسة تجسّد نهجه؟
هل طبعت كتاباً من كتبه؟
هل أحيت ذكره وفكره ولو بصورة باهتة او بائسة؟
وما يقال عن السياسيين يقال ايضا على العلماء المجتهدين.
الجواب على هذه الاسئلة واضح...
***
امام خذلان الاتباع وجدَ المخططون الستراتيجيون (زرق العيون) الجوَّ مناسباً لاطلاق الرعاع لكي تمزّق كتب السيد الصدر وملابسه وتنهش لحمه وتقطّع اوصاله الفكرية وتطحن عظامه الحضارية....لقد وجدوا في الفرقة الشيرازية ضالتهم.
استطاع المخططون الستراتيجيون – وبعد ان اطمأنوا تماماً من خذلان اتباع السيد الصدر- ان يقضوا على مدرسته الفكرية لا عن طريق السياسة، بل عن طريق الفكر.
لقد شخصوا – وهم على حق- ان أتباع السيد الصدر تركوا الفكر الى السياسة، فقرر المخططون الستراتيجيون (زرق العيون) ان يتركوا السياسة الى الفكر. فالقضاء على السيد الصدر سياسيا لا يحتاج الى جهد، لان اتباع السيد الصدر قد تكفلوا المهمة، والمخططون الستراتيجيون (زرق العيون) يريدون القضاء على فكر السيد الصدر بعد أن وجدوا اتباعه معرضين عنه مشغولين بما يرونه اهم من الفكر.
هنا جاءت الفرصة للمخططين الستراتيجين (زرق العيون) لضرب فكر السيد الصدر بالضد النوعي، بالتشيع الخرافي الذي لا يثير حفيظة المتدينين، بل ينطلق من التدين، ومن التقديس ومن التشيع..انه البديل الذي حاربه ائمة اهل البيت..انه الغلوّ الذي نشأ في زمن الأئمة وملأ كتب الحديث بالخرافات المصنوعة والاحاديث الموضوعة. وهاهي الفرقة الشيرازية مملوءة بهذا الفكر الخرافي و جاهزة للعمل وهي تملك الاهلية الكاملة للقيام بالمهمة لان الفرقة الشيرازية :
1. كمراجع: تملك مراجع "نوعيين"!، فمؤسس الفرقة اصبح مجتهداً دون استاذ، وحتى دون تعليم أساسي، تشهد بذلك مقدمة كتابه مبادئ الطب التي تعكس سذاجته العقلية، كما يشهد بذلك ادعاؤه معرفة اتقانه سبع لغات نسيها بعد اصابته بالتهاب الحنجرة! ومجتهدها الاخر يفتي لاتباعه بالافطار في اوربا قبل غروب الشمس في شهر رمضان عصراً (على مغرب كربلاء !!!)، ومجتهدها الثالث بذيء فاحش يتكلم بما يعف لسان السَوَقة عن التلفظ به.... وعلى هؤلاء فقس ما سواهم.
2. كخطباء:تملك الفرقة الشيرازية خطباء نوعيين ايضا كالفالي والمهاجر وعشرات غيرهم وهم يملكون - مثل ابي هريرة- جرابين من العلم : جراب مملوء بالاحلام، وجراب مملوء بالاكاذيب. الانبياء والزهراء والائمة يحضرون في اليقظة في مجلس المهاجر، وفي المنام في سرير الفالي.
3. كإعلام: تملك الفرقة الشيرازية اكثر من عشرين فضائية (يعلم الله من يمولها، كما يعلم سبحانه لماذا لم يحجبها القمر الاوربي هوتبيرد أو القمر السعودي عربسات أو القمر المصري نايلسات كما حُجبت قنوات المنار والميادين والكوثر والسورية واليمنية).
4. كجمهور:للفرقة الشيرازية جمهور لا يقرأ، واذا قرأ لا يفهم. هذا الجمهور يرى ان كتاب "بحث حول الولاية" يدل على ان السيد الصدر سني!، وان التفسير الموضوعي للسيد الصدر متأثر بسيد قطب! وأن كتاب "اقتصادنا" مسروق من كتاب الاقتصاد الذي ألّفه حسن الشيرازي! ويعتبر ان كتاب "مبادئ الطب" دليل على عبقرية مؤسس الفرقة الشيرازية! وان فتوى الافطار في رمضان عصراً هي فتح في عالم الفقه عجزت اساطين الفقهاء عن بلوغه!
5. كميدان وتمويل: تنشط الفرقة الشيرازية في دول الخليج وتملك امكانيات مالية هائلة مصدرها الخليج دون ان تتعرض نشاطاتها ومصادرتمويلها لمضايقات من هذه الدول التي تعشعش فيها المخابرات الاسرائيلة والغربية وترصد كل دولار يخرج منها لتعرف مصدره وممرّه ومستقرّه.
6. كموقف من اسرائيل:لأقطاب الفرقة الشيرازية جميعا موقف ساكت عن اسرائيل ومعادٍ لحزب الله والدولة التي تدعمه. لم يذكروا اسرائيل يوماً بسوءٍ، بينما يعيبون على حزب الله ومن يدعمه قتاله لاسرائيل قبل ظهور المهدي! ويرون قائده السيد نصر الله حاملاً راية ضلالة! لأنه غير مأمور بالقتال زمن الغيبة! انما هو مأمور شرعاً بسبّ عمر وابي بكر واتهام عائشة بالزنا!.
بهذه الخصائص في المدرسة الشيرازية يصبح طرفا اللعبة (الوهابية والشيرازية) بيد المخططين الستراتيجيين(زرق العيون)... كلاهما (الوهابية والشيرازية) ماهران في تسعير الحرب الطائفية، وكلاهما له جمهور متدين، وكلاهما يحاربان حزب الله، وكلاهما يحرّمان قتال اسرائيل.
ماذا يحتاج المخططون الستراتيجيون (زرق العيون) أكثر من هذا؟
***
....هكذا ضاع السيد الصدر بين خذلان الاتباع وهجوم الرعاع
***
من أصحاب العيون الزرق الى اتباع السيد الصدر :
".....شكرا لكم"
مقالات اخرى للكاتب