في السابق وتحديداً بالنُصف الثاني مِن القرن العشرين يَوم كان الوصول الى السُلطة في عالمِنا العَربي يَتم عَن طريق الإنقلابات ويَمُر عِبر فوهات بَنادق العَسكر، لم يَكن الحُكام بحاجة الى كسب ود شُعوبهم، وكان أسلوب التَهديد والوَعيد هو الأكثر إستِخداماً مِن قبل أغلب هؤلاء الحُكام ليَضمنوا وَلاء هذه الشُعوب و سُكوتها عَن وجودهم بالسُلطة وبقائهم فيها لعُقود. أما اليَوم فزمان آخر، لأن الوصول الى السُلطة بات يَتم عَن طريق الإنتخابات ويَمُر عبر صناديق إقتراع يَضَع فيها الناس أصواتهم لمَن يُريدون أن يَحكمهم، وبالتالي لم يَعد أسلوب الحَديد والنار ناجعاً لضَمان ولاء الناس، وباتَ الحُكام بحاجة لكسب ودّهم وشراء ولائهم وأصواتهم بأساليب أخرى جَديدة أكثر ودّية من أساليب سابقيهم ليتسَنى لهم البقاء بالسُلطة. وما كان يَحدُث في العراق بزمَن صَدام، وما يَحدُث اليوم في زمَن المالكي مِثال على ذلك.
ففي السابق كان صَدام وحِزبه يُسَيطرون على الناس ويَكسبون ولائهُم أو على الأقل صَمتهُم بطريقتين، أما الترهيب أو الترغيب، وطبعاً الطريقة الأولى كانت الأكثر إستِخداماً مَع غالبية الشَعب لأسباب عَديدة أهَمّها أن رئيس النظام السابق وأتباعَه كانوا ضَليعين فيها، كما أنها غير مُكلفة، فما كان يَتبقى مِن ميزانيّة الدولة التي كانت تذهَب للعَسكرة والخدَمات ورَواتِب الدولة كانت تكفي بالكاد لشِراء ذِمم و ولاء الحَلقة المُحيطة بهَرَم السُلطة والرُؤوس الكبيرة في دَوائر الدولة ومُؤسّساتها الخدَمية والثقافية وأجهزتها الأمنية. أما اليَوم في زمن الفضائيات فليسَ بإمكان المالكي أن يَتعامَل مَع الناس بنفس طريقة صَدام، وإن إستطاع (فالبخفية) وليسَ جَهاراً نَهاراً كما كان يَفعَل سَلفه لأن الزمَان قد تغيّر، وإن فعلها فلن يَستطيع (طمطمَتها) وسُرعان ما سَتنكشِف وتفوح رائِحَتها كما حَدَث مَع الزركة والحويجة، لكن لدى المالكي اليوم ما لم يَكن لدى صَدام وما يُغنيه عَن إستخدام أساليبه البدائيّة، ففي مُتناول يَده اليوم أكبَر ميزانيّات عَرفها تأريخ العراق الحَديث، وعَن طريقها يَستطيع شِراء ذِمَم الناس دون أن يُهَدّدُهُم أو يُرعِبُهُم كسَلفِه. وهذا بالفِعل ما دَأبَ المالكي على فِعله خُصوصاً خِلال ولايَته الثانية التي أنقضَت مِنها ثلاث سَنوات عِجاف لم يَتحَقق فيها أي شَيء سَواء بمَجال الخدَمات أو التنمية أو الأمِن، والسَبَب هو إن ما يَتبقى مِن أموال هذه الميزانيّات بَعد عَمَليات النَهب التي تقوم بها مافيات أحزاب السُلطة الحاكِمة يَذهب كرواتِب لمُوظفي الدولة الذين أصبَحَت غالبيّتهم طَوع بَنان مُختار العَصر والأوان وحامي حِمى الطائفة بل وهائمة بطلعَته البهية، ليسَ فقط لأنه يَدفع لهُم رَواتِب تُعادل عَشَرات أضعاف تلك التي كانوا يَتقاضونَها أيام صَدام والتي مَكنتهُم مِن إقتناء تلفزيون بلازما وفرن مايكروَيف وسَيارات فارهة وبيوت (دَبَل بانيو) كما يُسَمّونها، بَل وأيضاً لأن نُصُف مُوظفي ما يُسمى بالدولة العراقية الحالية يتقاضون رواتِبَهم وهُم جالِسون في بيوتهم (شاي وسوالف وعِبادة!) فالجَميع باتوا فجأة (مُوامنة) في عراق حِزب الدعوة الجديد الديمقراطي!!
نَعم إن أغلب مُوظفي العراق الجَديد يَتقاضون اليَوم رَواتبهم دون أن تطأ أقدامهُم عَتبة دَوائِرهُم، وحَتى مَن يَذهبون مِنهُم الى الدَوام لا يَفعلون شَيئاً خلال تواجُدهِم فيها، لأن هذه الدَوائِر مُتخمَة بالمُوظفين الفائضين عَن حاجَتها، لذا فهُم يَقضون غالبية وَقتهُم في إحتِساء الشاي، والسُوالف، والعَزايم وطبعاً العِبادة التي تأخذ جُزئاً كبيراً مِن وَقت الدَوام لأن القيام بها أكثر ثواباً مِن أداء الواجب وإنجاز المُعامَلات، فأغلب المُوظفين يَبدَأون الوُضوء قبل ساعة مِن وَقت الصَلاة حَتى إذا جاء وَقتها توقفت الحَياة المَعدومة أصلاً بهذه الدَوائِر، بَل إن بَعضَها تتوَقف نهائياً عَن العَمل أثناء المُناسبات الدينية لإنشغال مُوظفيها بأداء الشَعائر الخاصة بهذه المُناسبات كالمَشي لعِدّة أيام أو طَبخ الطَعام وغَيرها!!
إن ما يَحدُث اليوم في العراق هو أكبر عَمَلية للبَطالة المُقنُعة ليسَ فقط في تأريخ العراق بَل في تأريخ العالم هدَفها شِراء ذِمَم الناس، نجَح المالكي في تنفيذها وقطف ثِمارَها بإنتخابات مَجالس المُحافظات الأخيرة، وهو أمر سَيَتكرر بالإنتخابات البَرلمانية القادمة. فأغلب مُوظفي الدَولة العِراقية الحالية خُصوصاً في بَغداد ومَناطق الجَنوب المَشمولة بوَظائف الدَولة أكثر مِن غَيرها، يَنظرون اليوم للمالكي كوَلي نعمَتهم ويَربطون إستِمرار وَضعِهم الحالي بإستمراره وبَقائه بالسُلطة ويَعتبرون مُحاولة إبعاده عَنها كتهديد لهُم ولوجودِهِم. هذا طَبعاً بالإضافة للعامِل الطائفي الذي لا يُفوّت المالكي فرصة العَزف على وَتره النَشاز بَين حين وآخر، ليُرعِب أبناء هذه المَناطق ويُخوفهُم بكِذبة (فلول البَعث) الذي يُريد العَودة للسُلطة و(جَيش مُعاوية) الوَهمي المَوجود بمُخيّلته المَريضة فقط والذي يتهدّدهُم في حال تركه للسُلطة، كما فعَل قبل إنتخابات مَجالس المُحافظات الأخيرة حينَما صَوّر تظاهُرات المَناطق الغربية بإتجاه يَخدُم كذبته السَخيفة وفسّرَ أهدافها بهذا المَعنى الخَبيث. وَرَقتان مُهمّتان لكن غير نظيفتان يَبدوا أن المالكي وحِزبه قد نجَحوا بلعبها خلال السَنوات الماضية، سَتضمَن لهم أغلبية مُريحة جداً في الأنتِخابات البَرلمانية القادِمة كما فعَلت في إنتخابات مَجالس المُحافظات الآخيرة، وهو ما سَيُحرج شُركائهُم ويتيح لهُم البَقاء بالسُلطة لأربَع سَنوات عِجاف قادِمة رغم أنوفهم، وهو برَأيي ما سَيَحدُث ما دام هنالِك مُجتمَع يَعيشُ أفرادُه خارج الزمَن ولا يُفكرون سِوى بمَنفعَتِهم الذاتية، يَظنون أنهم في النَعيم بَينما هُم بأتعَس حال ويَرضون بما لايَرضى به أي أنسان يَحترم إنسانيّته،ولا يَسألون أنفسَهُم لمَ نَحن اليوم بأسفل سُلّم الحَضارة البَشَرية التي كان أجدادُنا بُناتَها الأوائل؟ وأينَ مَوقعُنا اليوم مِن باقي شُعوب العالم التي بَزّتنا بسَنوات ضَوئية في التمَدّن والتحَضّر والتطوّر؟ وبالتالي ما الذي قدّمَه لنا المالكي كدَولة وشَعب خلال 8 سَنوات مِن تسَلطِه وحِزبه على رقابنا ؟؟؟
مقالات اخرى للكاتب