اغلب العراقيين يعرفون ما هو المقصود بالعملية السياسية ، ويعرفون لماذا هاجمت الولايات المتحدة العراق واسقطت نظام صدام التابع لها ، ويعرفون لماذا قدمت الولايات المتحدة اكثر من 5 آلاف قتيل من جيشها ، وانفقت اكثر من ترليوني دولار لـ (تحرير العراق) ، ويعرفون لماذا بنت الولايات المتحدة سفارة عملاقة لها في المنطقة الخضراء هي اكبر سفارة في تاريخ الدول يعمل فيها الف موظف ، ويعرفون لماذا يتراجع كل شيء في العراق الى الحضيض ما عدا صادرات النفط فهي في تزايد وقد وصلت الى حافة الثلاثة ملايين برميل يوميا ، يقابلها تصاعد في عدد الفقراء والعاطلين والجياع والمشردين ، العراقيون من كناسهم الى وزيرهم يعرفون كل هذه الحقائق واسبابها وخلفياتها ، واميركا تعرف انهم يعرفون ، لذا تكونت تدريجيا تقاليد ثابتة في (التغليس) المتبادل بين الطرفين ، واستخدام النفاق الخطابي الساذج من كليهما ، المشروع الامريكي الغربي في العراق هو الثابت الوحيد وكل ماعداه متغير ، هناك حياة امريكية غربية في شمال الارض نموذجية بانظمتها وبشرها فهم قد صنعوا الجنة على الارض ، ولكي تستمر حياتهم السعيدة يجب ان يكونوا القوة الوحيدة في العالم يتصرفون به كيف يشاؤون ، العراق بنظرهم بقعة أرض تحتها مخزن نفط هائل يمكن ان يمد الجنة الغربية بالطاقة الرخيصة قرونا أخرى ، يغترفون بهدوء من بحيرة النفط العراقي بشرط ان تبقى هذه البحيرة غافية تحت اقدام حافية هي أقدام أناس لا يغادرون قرونهم الوسطى عراق في قرونه الوسطى ، معارك وشعارات وجيوش وهوسات واستعراضات ملتهبة ، حرب طوائف ، حرب اعراق ، تكفير متبادل ، فوق بحيرة النفط المسلم النفطي المعذب يعتبر المسلم النفطي من مذهب آخر هو عدوه الذي يجب ان يشرب من دمه ليرتاح وليس اسرائيل ولا اميركا ! بلد وهمي ، حكومة مركزية واحدة ولكن غير مسموح لها ان تفرض سيطرتها الكاملة على العراق ، واذا حاولت ذلك تفجرت في وجهها الازمات شمالا وغربا ، اقليم كردي بشكل دويلة جاهزة يحظى بامتيارات اقتصادية وسياسية وعسكرية وعلاقات دولية ولكن لا يسمح له بأعلان انفصاله عن المركز ، ثلاث محافظات توصف بأنها سنية المذهب مسموح لصدام بعد موته ان يكون له قبر يزار فيها ، كذكرى لحكم الاقلية الطائفية الذهبي ، غرناطة البعثيين المفقودة ، حفل لاطلاق الرصاص عنده والتحريض على الثار من الشيعة الفرس الدخلاء ، ولكن غير مسموح لهم باعلان دويلتهم حاليا ، أمراء نفطيون في الخليج يحاولون بالمال المتدفق كالشلال شراء صحراء اعالي الفرات لجعلها وسادة عازلة باتجاه اسرائيل ، يقطنها الارهابيون ويعلنون امارتهم باشراف قطر التي هي ولاية اسرائيلية ، ولكن غير مسموح لها بالخروج تماما من هيمنة المركز ، اغلبية شيعية متناحرة ، متكافرة ، مقسمة الى عدة احزاب وعدة مراجع وعدة فضائيات ، تكتشف حالات غريبة ، شيعي متدين تموله واشنطن ، شيعي غامض وثري تموله اسرائيل ، شيعي لطيف وديمقراطي تموله قطر والامارات ، شيعي مع ايران وآخر ضد ايران ، شيعي يؤمن بالتقليد وله مرجعية ، شيعي آخر لايؤمن بالتقليد ويعلن تكفير المراجع ، كل هؤلاء يعيشون معا في منطقة ضيقة مجهولة المستقبل ، بعض المستفيذين يبسط الحالة ولا يعترف بهذا التوصيف ، اصبح واضحا اين يقع العراق وكيف يدار ولماذا ، بعض الشرفاء قرروا دخول العملية السياسية بارادتهم وهدفهم انقاذ البلد والشعب تدريجيا ، ساحة الحركة محدودة امامهم ويفتقرون لحرية القرار والمناورة ، في المساحة الضيقة المتاحة مسموح لهم : كتابة دستور ، تأسيس نظام سياسي تعددي انتخابي ، تحقيق التنمية والرفاه ، ازالة التمييز العرقي والمذهبي ، بشرط عدم تجاوز الخطوط الحمراء المرسومة ، لكن الذي حدث ان رجال العملية السياسية اصبحوا خليطا من الشرفاء وغير الشرفاء ودخلوا في صراع على السلطة والامتيازات في هذه المساحة الضيقة ، الغريب ان الجميع يدعون الزهد وحب الناس والسعي لتحقيق سعادتهم ؟ ... صناعة المشهد البارع تتم عندما تراقب من يطلق قوى التأزيم والتقسيم ويرعاها ثم يخطب قائلا : وحدة العراق وأمنه خط احمر ! الأمريكيون صناع حضارة ودولة وتأريخ وعلى الأمم التابعة ان تتعلم منهم الكثير .
مقالات اخرى للكاتب