منذ أن اكتشف الإنسان النار، وتعلم الكلام، وانطلق عصر العيش جماعةً، وتوقف الترحال، بدأت المفاضلة بين فريقين، فريق يعتقد بأن ترويض النفس البشرية، وتعزيز سلطة العقل، هما الضامنان الأكيدان لأمن الجماعة وبقائها، وفريق مقابل يرى أن الحاكم، بتفرده بالسيادة على المجموع، وبتعزيز قوة العصى والساطور هو الكفيل الأفضل والأنجع لحماية الرعية.
ومن أول بدء وسائل التواصل مع الآخر بالدخان ثم بالطبول، كان الشغل الشاغل للمفكرين والفلاسفة والأنبياء ودعاة اللاعنف أن يغسلوا أدمغة البشر من أمراض الأنانية وجنون التملك، وأن يمنعوا استعباد القوي للضعيف، والغني للفقير، والرجل للمرأة، والكبير للصغير.
بالمقابل نشأت، لحربهـِم ولوقف انتشار أفكارهم، جبهاتٌ ومنظاتٌ ومؤسسات يقودها ويمولها المتنفذون والحكام وبطاناتهم ومَواليهم أصحاب المصالح في بقاء الحال على حاله.
تعالوا وقلبوا معي أكداس النظريات والفلسفات والمدارس الفكرية والأديان، واستعرضوا قوائم أسماء عظماء المفكرين والمصلحين الذين سقى بعضُهم أفكارَه بدمه، وتقبَّل آخرون منهم أن يُحرقوا وهم أحياء، ورضي غيرهم بتقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصُلبَ البعض منهم على الشجر، أو على أبواب القلاع والسجون، ومات كثيرون في المنافي النائية القاحلة.
وتذكروا أبرزهم، حمورابي، وقوانينه الشهيرة التي ما تزال مَسلتُها الشهيرة قائمة إلى اليوم، ومروا بالمئات، وربما الألوف، من الذين جاؤوا بعده، وساروا على هديه، وجاهدوا مثله من أجل تقنين العدالة، وتحديد حقوق البشر، وواجبات الحاكم، لتصلوا بعد ذلك كله إلى سقراط الذي صاح في القرن الخامس قبل الميلاد: (أيها الإنسان إعرف نفسك).
فبرغم أنه أراد خدمة قومِه فقد قتلَه قومُه لأنه بَشَّرهم بأن حياة الإنسان لا تنتهي بالموت، ونادى بضرورة وجود شريعة أخلاقية أبدية. فقد اقتيد إلى محاكمة قضاتُها الجهلة والغوغاء والمزورون والملفقون، ورفض أن يطلب منهم الرحمة، وتناول الكأس المسموم وهو يبتسم.
ثم جاء بعده تلميذه أفلاطون ليتفرغ للبحث عن الحكومة العادلة التي قال إنها لا تأتي عفوا، ولابد لها من التمهيد والتربية والتعليم. وعاش عمره كله وهو يجهد في تفصيل ملامح مدينته الفاضلة، وقوانينها ومبادئها. ثم أنشأ مدرسته الشهيرة التي مَنع دخولها على غير الفلاسفة والعلماء
والمبدعين، وظلت تُعلم الوافدين إليها تسعمئة عام، حتى أغلقت في القرن السادس بعد الميلاد، ولكن فلسفته انتقلت منها في أثينا إلى بلاد فارس، ثم إلى بلاد المشرق.
ثم اعطفوا على كونفوشيوس الذي أقام فلسفته على القيم الأخلاقية، واشترط أن تكون الحكومة خادمة للشعب. ثم زرادشت، وبوذا، وصولا إلى فلاسفة عصرنا الحديث وعلمائه ومفكريه. فقد ظلت العبقريات الإنسانية تتوالى وتتابع دون توقف إلى اليوم.
أما السؤال الذي يشغل البال هنا فهو ما يلي:
إذا كانت جميع تلك القامات العملاقة، وكل تلك الأفكار العظيمة التي ظلت البشرية تنهل من منابعها وتتناقلها، من جيل إلى جيل، ومن مكان إلى مكان، في الشرق والغرب، لم تخلق حكومة عادلة واحدة، ولا مدينة فاضلة واحدة، فما جدوى أن نواصل التبشير بها، والترويج لمبادئها، والعالمُ، بعد آلاف السنين، لا يحكمه سوى أصحاب الرؤوس الفارغة من كل رحمة وحمية وعدل، وأرباب القلوب الخاوية إلا من الحقد والشر والطمع والغرور؟
ألم يولد بوتين، مثلا، في ظلال الماركسية، ويقضي ثلثين من عمره في خدمتها والدفاع عن رسالتها التي قامت على التبشير بسلطة الكادحين والعمال والفقراء؟ إذن كيف لا يعرق جبينه ولا يرق قلبه وهو يرسل العشرات من طائراته لترمي قنابلها الحارقة على (كادحين)، قد يكون بينهم ماركسيون، مثلـُه، في قرى سوريا المحترقة وأزقة مدنها المهدمة، لم يفعلوا شيئا سوى رفضوا الديكتاتورية والفساد والطائفية، وطلبوا الحرية والعدل والسلام؟
وعلى أي فصل من الماركسية استند في حمايته لحاكم تافه كبشار الأسد وهو يراه يحاصر مدنا وقرى آمنة، ويمنع عن أهلها الماء والدواء والغذاء، ويرسل إليهم براميله المتفجرة العشوائية صباحَ مساء؟
شيء آخر. ألم يتفقه (روح الله) خميني، ومن بعده علي خامنئي، بحضارة الفرس العظيمة التي قامت على مباديء زرادشت وتعاليمه؟
ثم ألم يدرس ويتعمق ويتبحـر، كما يزعم ويدعي، في قيم ثورة الإمام الحسين على الظلم والظالمين، وأهدافها؟ إذن كيف ينام ليله بعد أن يُبلغه حرسُه الثوري وأتباعُه المدجَّجون بسلاحه، والمأمورون بأمره، من قادة مليشياته العراقيين واللبنانيين واليمنيين، بأنهم أحرقوا الضرع والزرع، في هذه الدولة أو تلك، أو في هذه المدينة أو تلك، وقتلوا، وهَجروا، واغتصبوا، ونهبوا، في العراق وسوريا واليمن ولبنان والبحرين؟ ألا يؤرقه أنين الضحايا، حتى وأنَّ منهم كثيرين من دينه ومن مذهبه نفسه، والعياذ بالله؟
وعلى أية آية قرآنية، وعلى أي حديث نبوي، أو على أي قولٍ للإمام علي والإمام الحسين يَستند هذا الخامنئي ليأمر بنشر الرعب في حياة الملايين من مواطنين آمنين في دول لم يبادئْه أحدٌ من أهلها بعدوان؟
نعم، غضب كثيرون، في أمريكا وأوربا، على الظلم والفساد، وهتفوا ضد القتلة والمزورين، ولكن أحدا منهم لم يستطع، ولن يستطيع، بهتافه بالحرية وحقوق الإنسان أن يمنع اقتحام قرية فقيرة مسالمة في سوريا وهدم منازلها على رؤوس أهلها، ولا أن يرفع سكين مقصلة، أو حبل مشنقة عن رقبة إنسان في إيران لا ذنب له سوى أنْ عارض سياسات الولي الفقيه وأفكاره ومشاريعه الإمبراطورية الخائبة.
ألم ينتفض الشارع العراقي في مدن (شيعية) ضد الحكام (الشيعة) الفاسدين، وظل ينتفض أشهرا وأسابيع، وأصحاب القوة والمال والسلطة لا يقرأون ولا يسمعون، وأمريكا ودول أوربا تعاضدهم، وتشد من أزرهم، حتى وهي ترى وتسمع المتظاهرين، ولا تستحي من الإشادة بديمقراطية حيدر العبادي ونوري المالكي وهادي العامري وأبي مهدي المهندس والبطاط؟
هل صحيح أن العالم، وبالأخص الغربي الديمقراطي المتحضر، عاجز عن لجم الظلم والعدوان في سوريا والعراق واليمن ولبنان والصومال وليبيا والسودان وعربستان وكردستان؟ أم إن حضارة دول الديمقراطيات، وقيم عصر المركبات الفضائية لا تتعارض مع ديكتاتورية القرن الواحد والعشرين ودواعشه وحشوده الشعبية التي لا تمل من شرب الدم؟
هل صحيح أن الدول العظمى، وبالأخص تلك التي دوخت الدنيا بحديثها الممل الطويل عن رفضها للديكتاتورية والديكتاتوريين، وبإصرارها على محاربة الإرهاب، لا تعرف من يمول الإرهاب، ومن يسلحه، ومن يؤيه، ومن يتستر على قادته ومجنديه القتلة والجزارين؟
فأية ديمقراطية تلك التي ترى الإرهاب بعين، ولا تراه بالعين الأخرى، و(تطنش) عن قتل العشرات والمئات هنا، وتجند جيوشها لقتال من يعتدي على فردٍ واحدٍ، هناك؟.
إذن، لماذا نكتب، ولمن نكتب، إذا كان القول الفصل، كل القول، مع صاحب المفخخة، وبائع الطائرة، وصانع الصاروخ، وولي أمر المليشيا، ومُرشد المفخَخين، ومموِّل الانتحاريين الذين يصولون ويجولون، لا في العراق وسوريا واليمن ولبنان وحدها، بل في أوربا كلها، والعالم، يقتلون ويغتصبون ويحرقون، علنا، على شاشات التلفزيون، وعلى صفحات الصحف، وفي الإذاعات، وأمام أعين مراقبي المنظمات العالمية التي تمتهن الدفاع عن السلام العالمي وعن حقوق الإنسان؟
مقالات اخرى للكاتب