إنّ ثورة الوراثيات الجزيئية هي واحدة من أعظم أنجازات العلم في القرن العشرين، ويعني هذا أنّها من أعظم ما أنجزه قط الجنس البشري.
أين سنذهب بها إذن – أو أين ستذهب هي بنا – في السنوات الخمسين التالية؟
الوراثيات الآن هي تكنولوجيا معلوماتية خالصة. وهذا على وجه الدقة هو السبب في أنّ الجين المضاد للتجمد يُمكن نسخه من سمكة قطبية وإلصاقه داخل ثمرة طماطم.
- في العام 2050 سنكون قادرين على تحديد تتابعات الجينوم الكامل لأحد الأفراد مقابل 100 جنيه إسترليني بالقيمة الحالية ( حوالي 160 دولار ). وبدلا من مشروع الجينوم البشري، سيكون كل فرد قادرا على تحمّل تكلفة مشروع الجينوم الشخصي الخاص به.
- في العام 2050 سيكون لدى علماء وراثة السكان البيانات النهائية عن التنوع البشري. وسيصبح في ألإمكان إستنباط شجرة لعلاقات أبناء العمومة التي تربط أي شخص في العالم بأي شخص آخر. وهذا أكثر الأحلام جموحا عند علماء التاريخ.
سوف يستخدم هؤلاء العلماء التوزيع الجغرافي للجينات لإعادة بناء الهجرات والغزوات الكبرى عبر القرون، ولمتابعة خط رحلات سفن الفايكنج الطويلة، ولمتابعة القبائل الأمريكية بواسطة جيناتها وهي تهبط من ألاسكا إلى تييرا دلفيجو، ولمتابعة السكسون في مرورهم خلال بريطانيا، ولتوثيق الشتات عند اليهود، بل وحتى لتعيين السلالة الحديثة لسادة حروب النهب مثل جنكيزخان.
- تخبرنا الآن أشعة إكس للصدر عما إذا كان المريض مصابا بسرطان الرئة أو مصابا بالسل. وسيتمكن المرء في 2050 مقابل ثمن صورة أشعة إكس، أن يعرف النص الكامل لكل جين من جيناته. ولن يناول الطبيب لمريضه وصفة طبية يوصى بها لأي شخص متوسط ممن يشكون بشكوى المرض، وإنّما سيناوله وصفة طبية تلائم بالضبط جينوم كل مريض وحده.
ولا ريب أنّ هذا أمر طيّب، ولكن شريط الجينوم الخاص بكل فرد سوف يتنبأ أيضا بدقة منذرا بالنهاية الطبيعية لهذا الفرد. ترى أتكون لدينا الرغبة في معرفة من هذا النوع؟ حتى لو كنا نرغب في ذلك لأنفسنا، هل سنرغب في أن يكون شريط ما لدينا من دنا مقروءا عند الأكتواريين ( خبراء التخمين ) بشركات التأمين، أو عند محامي قضايا إثبات الأبوة، أو عند الحكومات؟ لن يسعد كل فرد بتوقعات من هذا النوع حتى لو كان يعيش في بلد ديموقراطي معتدل. يتطلب الأمر أن نفكر في أنّ شخصا من طراز هتلر قد يظهر في المستقبل ويسيء إستخدام هذه المعرفة.
- إحدى الفوائد الإضافية التي ربما سيكون التأثير الأعظم لها هو في الولايات المتحدة، هي أنّ المعرفة الكاملة لشجرة الحياة ستجعل من الأصعب أن يكون هناك اي شك في حقيقة التطور. وستصبح الحفريات بالمقارنة غير ذات أهمية في المحاجة، ذلك أنّه سيوجد لدينا مئات من الجينات المنفصلة، في عدد كثير من ألأنواع التي بقيت حية يصل مقداره إلى العدد الذي نستطيع أن نتوصل لتحديد تتابعاته، وكلها تعزز ما يسرده كل واحد منها الشجرة الوحيدة الحقيقية للحياة.
- هناك مقولة ترددت كثيرا بما يكفي لأن تصبح مبتذلة، ولكني أفضل أن أقولها ثانية، وهي: أنّ معرفة جينوم أحد الحيوانات ليست أمرا مماثلا لفهم هذا الحيوان. وسوف أتبع نهج سيدني برينر (*)، وأفكر بلغة من ثلاث خطوات، عن تزايد الصعوبة في "حوسبة" أحد الحيوانات من جينومه.
الخطوة الأولى كانت صعبة ولكنها الآن قد تم حلها تماما. وهي خطوة حوسبة تتابعات الأحماض الأمينية في إحدى البروتينات وذلك من تتابع النيوكليوتيدات (**) بأحد الجينات.
والخطوة الثانية هي حوسبة النمط الثلاثي الأبعاد لثنايا أحد البروتينات وذلك عن طريق التتابع ذي البعد الواحد للأحماض الأمينية. يعتقد الفيزيائيون أنّ هذا أمر يُمكن أداؤه من حيث المبدأ، ولكنه صعب، وكثيرا ما يكون من الأسرع أن نصنع البروتين ثم نرى ما يحدث.
والخطوة الثالثة هي أن نحوسب الجنين النامي من جيناته وتفاعلاتها مع بيئتها – وهي بيئة تتكون في معظمها من جينات أخرى. وهذه هي أصعب خطوة، إلا إنّ علم الأجنة (( وخاصة فيما يتعلق بما تفعله جينات "هوكس" (***) والجينات المماثلة )) يتقدم بمعدل سريع بحيث إنّه بحلول 2050 ستكون هذه الخطوة، فيما يُحتمل، قد تم حلها. وبكلمات أخرى فأنا أخمن أنّ عالِم الأجنة في عام 2050 سوف يُغذي أحد الكمبيوترات بجينوم حيوان مجهول، وسيحاكي الكمبيوتر عندها تناميا للجنين يصل عند ذروته التوصيف الكامل للحيوان البالغ.
ولا يُعد هذا في حد ذاته إنجازا مفيدا بوجه خاص، لأنّ الجنين الحقيقي سيظل دائما جهاز حوسبة أرخص من من الجهاز الالكتروني.
ولكن هذه المحاكاة سيكون منها طريقة للدلالة على إكتمال فهمنا للأمر. وستكون هناك تطبيقات معينة لهذه التكنولوجيا لها فوائدها.
وكمثل: عندما يجد مخبروا التحري بقعة دم فإنّهم قد يتمكنون من إنشاء صورة كمبيوتر لوجه المشتبه فيه – أو بدلا من ذلك، حيث إنّ الجينات لا تنضج بالسن، فإنّهم قد يتمكنون من إنشاء سلسلة من الوجوه منذ الطفولة حتى الشيخوخة!
- أعتقد أيضا أنّه بحلول 2050 سوف يصبح حلمي عن "الكتاب الجيني للموتى" واقعا متحققا. يبين لنا الإستدلال الدارويني أنّ جينات أحد الأنواع لابد من أنّ فيها ما يشكّل نوعا من التوصيف للبيئات السلفية التي أستطاعت هذه الجينات أن تبقى موجودة عبرها. فالمستودع الجيني لأحد الأنواع هو الصلصال الذي يتشكل بواسطة الإنتخاب الطبيعي.
وكما أوضحت الأمر في "فك نسيج قوس قزح":
كما تنحت رياح الصحراء جروف الرمال في أشكال خيالية،
وكما تشكل أمواج المحيط الصخور، فإنّ دنا الجمل قد نُحت
بالبقاء في صحارى قديمة، بل وحتى في بحار أكثر قدما،
لينتج عنه الجمال الحديثة. يحدثنا دنا الجمل – لو كنا فحسب
نفهم لغته عن العوالم المتغيرة لأسلاف الجمل. ولو كنا فحسب
نفهم لغة دنا سمك التونة ونجم البحر لوجدنا كلمة "البحر"
مكتوبة في النص. أما الخلد ودود الأرض فهو ينطق
عبارة "ما تحت الأرض".
للبحث صلة
الهوامش:
(*) سيدني برينر: عالم فائز بجائزة نوبل.
(**)النيوكليوتيد: وحدة كيميائية في تركيب دنا.
(***) جينات هوكس HOX: جينات في الثدييات تحدد الموقع النسبي للخلايا والأنسجة عل طول المحور الأمامي الخلفي للجنين، فتحدد موضع الفقرات والضلوع والعضلات والجهاز العصبي.... الخ.
مصادر البحث:
- العلم والحقيقة.... تأملات عن الأمل والأكاذيب والعلم والحب................... ريتشارد داوكينز
مقالات اخرى للكاتب