شاهدته بالسوق مع أهله ومازالت الابتسامة في وجهه ! إنه الأصم الذي كنت أراقبه في حارتنا أيام الطفولة، وما زالت تضاريس وجهه الضحوك على عهدها ، وابتسامته لم تفارق محياه منذ رأيته أول مرة . كان الرجل الأصم مشهوراً بحارتنا ، وكان يوزع على المارة ابتساماته أثناء جلوسه على الرصيف ، لقد كان يعوضنا من ابتسامات نفقدها .
خمّنت فتيقنت إن الصبية الذين معه هم أبناءه ، الحمد لله ، أخيراً تزوج الرجل الأصم ! فقلت سألقي عليه التحية كي يتذكرني ، فتوجهت إليه، وبمجرد أن رآني أعطاني الأحضان والقبلات ، وكأني صديقه المقرب . المشكلة التي واجهتني أني لا أفهم لغة الإشارة ، فساعدتني السيدة التي كانت معه " زوجته " ، وبعد دقائق رجعت إلي أهلي، حتى حصلنا على مكان شاغـر لتناول وجبتنا ، ومازلت مستغرب من ابتساماته الكبيرة ، والتي يوزعها على من حوله ، إنه ينظر للحياة بابتسامة غير طبيعية ، لكن كيف ؟
لقد تذكرت ! لماذا وكيف يوزع ابتساماته على الجميع ، إنه أصم ، والأصم لا يسمع الأصوات التي من حوله ، إذاً هو لا يسمع الإزعاج ، ولايعرف طعمه وتأثيره على آذانه، وهذا مانعاني منه الأن في المول المزدحم المزعج ، وكأن الطبلتين تودان الانفجار ، نحن والله في خلطة أزعاج مركبة من أصوات الناس ، وصوت الألعاب وصالة التزلج وزبائن المطعم ، وصراخ ابني الذي يريد وجبة جانك فوود من لحم الفليش البديل.
برهة أرمق بها المارة ، وأخرى أرمق ابتسامته الجميلة ، حتى توقفت الدموع في محاجر عينيّ ، وخاصة عندما أيقنت الحـقيقة التي يعيشها هذا الرجل : إن صاحبنا لم يستمع قط للراديو أو للقنوات الفضائية ! إنه لا يعرف ولن يعرف بما يجري حوله ، ولا يوجد مصطلح " إزعاج أو ضوضاء " بقاموس ذاكرته ، ولم ولن يشعر بما يقال في الأخبار اليومية من قتل وذبح لبني البشر في العراق وسوريا وفلسطين وباقي العالم ، وأخبار المشردين من الفيضانات والحرائق والكوارث التي يواجهها سكان الأرض ، أو حتى قضية اتساع ثقب الأوزون ، ولو فرضنا إنه شاهد بأم عينيه مشهد يدمي القلب ، فهذا لن يؤثر عليه كما نحن نواجه أصوات وصرخات الثكلى من الأطفال والنساء.. ولن أنسى كذلك ، إنه لا يسمع ثرثرة زوجته وصراخ أولاده عند رجوعه من عمله " مع احترامي للزوجات" ، أو تعليقات رئيسه بالعمل !
إذاً هو كمن وضع الدنيا على وضع الصامت Mute ، وهو كمن يعيش داخل صندوق زجاجي عازل للصوت مائة بالمائة ، ولقد واجهني سؤال عند كتابتي هذا المقال : هل هو سعيد بوضعه ؟ أم العكس ؟ ربما الإجابة " نعم "، وهو ويبتسم لنا كانعكاس لما يدور داخله من وناسه ، أو ربما " لا " ، هو حزين ويعـوض حزنه بابتسامات مقنعه تعوضه النقص ، لأنه بمعـزل عن الحقيقة الغائبة ، وهي عالم الضوضاء الذي نحن في صومعته ، وربما الحق أن الدنيا هكذا أطعم ، وهذا هو الوضع الصحي بخيرها وشرها ، وجنة من غير ناس ما تنداس كما يقال .