مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية
شكل انتخاب الرئيس الامريكي الخامس والاربعين صدمة موجعة للمحللين والمتابعين، فضلا على الحكومات في كثير من البلدان، فكل التوقعات كانت ترجح فوز وزيرة الخارجية الامريكية السابقة هيلاري كلنتون مدعومة بكونها ابنة المؤسسة الامريكية العريقة، والمدافعة عن القيم الامريكية العالمية، والاكثر انفتاحا على الاقليات والحكومات، انطلاقا من ما يسمى بالمصالح المشتركة.
اما خصمها الانتخابي فكان يؤشر عليه تهوره وتعصبه اتجاه الاقليات، واتخاذه مواقف مثيرة للجدل بخصوص النساء، ورفعه لشعار امريكا اولا، ورغبته في تحرير واشنطن من ما يسميه بظاهرة الركوب المجاني سواء فيما يتعلق بوضعها في حلف شمال الاطلسي ام بالتعامل مع حلفائها في جنوب شرق اسيا والمحيط الهادئ والشرق الاوسط...
ناهيك عن مواقفه المناهضة لبعض الاتفاقيات الدولية كاتفاقية التجارة الدولية وغيرها، فضلا على كونه رجل جاء من خارج المؤسسة الامريكية ومتحامل عليها لأسباب عدة.
مع ذلك، فكل هذه المزايا المعطاة لكلنتون، والانتقادات الموجهة لترامب لم تمنع من فوز الاخير بجدارة في انتخابات الرئاسة الامريكية التي جرت يوم الثامن من شهر تشرين الثاني-نوفمبر الجاري، بل وتسيد الجمهوريون لأول مرة منذ عقود على قمم السلطة في واشنطن ابتداء من مؤسسة الرئاسة مرورا بمجلسي الكونغرس وحكام الولايات وصولا الى المحكمة الاتحادية العليا.
انه فعلا حدث من العيار الثقيل، قد يدعي البعض عدم خروجه عن التوقعات لبعض التحليلات الاستراتيجية، الا ان الواقع يكشف عكس ذلك، فما تركه الحدث من تداعيات داخل امريكا وخارجها يمثل خير دليل، فلماذا حصل ذلك؟ ولماذا لم يتم توقعه؟.
ان ما حصل في امريكا يكشف ان العالم آخذ بالتحول التدريجي ولكن الثابت في موازين القوة، اذ لم تعد مؤسسات السلطة وحدها صاحبة الكلمة الفصل للتحكم بمسار الاحداث، بل ان خيارات الناس وارادتهم هي الاقوى، وما تعتقده بعض السلطات من تمثيل ودفاع عن مصالح شعوبها قد لا تكون هي المصالح التي يشعر الناس فعلا انهم بحاجة اليها.
لقد اتهمت مؤسسة الحكم في واشنطن ترامب بمواقف معادية للنساء واعتقدت انها بذلك ستدفعه الى خسارة اصوات النساء في امريكا، فتبين ان اكثر النساء صوتت لترامب ولم تصوت لكلينتون، اذن من الخطأ الترويج لمقولة أن المرأة تكون اكثر تمثيلا لبنات جنسها، ومن الخطأ الاعتقاد بأن التسقيط الاعلامي للخصوم يحقق النتائج المرجوة دائما.
كذلك من الخطأ الاعتقاد بضآلة تأثير الخطاب الشعبوي المتنامي داخل دول العالم، فهذا الخطاب، لا يكشف عن عجز الحكومات وضعفها فقط، بل يكشف عن وجود ارادة داخلية -تتفاعل صعودا مع تنامي التواصل الاجتماعي المستند الى التقدم التكنلوجي- لم تعد تحتمل الخطابات السياسية العاجزة عن ايجاد حلول حقيقية لمشاكل البشر، فالقيم الكلية لعصر النهضة، لم تعد تكفي وحدها لتلبية متطلبات شعوب ترزح تحت عبء الانفتاح المحطم للمصالح الاقتصادية، ويرهقها خطر تدمير الخصوصيات الثقافية، وتتنامى فيها الفجوة بين الاغنياء والفقراء، وبين النخب وعامة الناس.
هذا الخطاب الشعبوي اثبت منذ اطاحته بحكومة ديفيد كاميرون في بريطانيا، ان له مناصريه الكثر، ويبدو انه لن يتوقف عند حد المجيء بترامب الى حكم اقوى دولة في العالم، بل سيستمر في كل الدول التي اصبحت حكوماتها عاجزة عن مواكبة مصالح شعوبها، فالقوة لم تعد بيد الحكومات على الرغم من امساك الاخيرة بكثير من ادوات القوة الاقتصادية والعسكرية والاعلامية، انما القوة الحقيقية هي بيد الشعوب الساخطة والباحثة عن خيارات جديدة تتقاطع احيانا مع خيارات الحكومات.
ولن يطول الزمن لتجد كثير من الحكومات في العالم، انها مضطرة الى الاستسلام امام هذا المد الشعبوي والتسليم بخياراته. ان التحليلات المبنية على مكامن القوة المتصورة في القرن العشرين، لم تعد مناسبة للقرن الحادي والعشرين، فموازين القوة اليوم تتغير بعمق وبتطرف وما جعل معظم التحليلات تقع في خطأ تنبؤي بنتائج الانتخابات الامريكية هو اهمالها معرفة طبيعة مشاعر الناس الحقيقية، وتركيزها على مقولات الحكومة والمصالح المرتبطة بها، وتبنيها الاساليب التقليدية في التحليل.
ويبدو ان الموجة الترامبية تمثل هزة جيدة للتأمل فيها من قبل الانظمة ومراكز صنع القرار في الشرق الاوسط، لأن هذه المنطقة الحيوية من مناطق العالم تزخر بحكومات لا زالت غير قادرة على التكيف مع متغيرات القوة الجديدة، وينصب معظم تركيزها على رؤية حكامها، ومصالحهم او المصالح المرتبطة بهم، وتتجاهل عن قصد مصالح شعوبها، والخيارات التي تراها هذه الشعوب في تحقيقها، لذا يمكن القول: أن الشرق الاوسط مقبل على هزات شديدة في المستقبل لن ينقصها للاطاحة بمصالح بعض حكوماتها الا وجود قيادة ترامبية قادرة على صهر الموجة الشعبوية وتحويلها الى تيار جارف يقتلع كل من يقف في وجهه.
مقالات اخرى للكاتب