لم يتبق من تراث ومعالم مدينة بغداد سوى القليل المتناثر، هنا وهناك. والمهمل بذات الوقت من قبل أصحابه او من قبل الجهات المسؤولة. في أحد أزقة البتاويين، تلك المحلة التي ارتبطت ببغداد بحبل سري، ثمة بيوتات تراثية متراصفة بشكل فريد وجميل، لكنها للأسف مهدمة ومهملة في ذات الوقت. البعض منها ترك ليتحول مع الأيام الى مكان للنفايات. وآخر سكن من قبل عوائل فقيرة او ما يعرف بعوائل الغجر وغيرهم من النازحين من بعض المناطق ومدن البلد.
حياة العوائل البغدادية التي ارتبطت بمحلاتهم القديمة ، مثل الفضل ، الكفاح ، الشواكة ،العيواضية ، البتاوين وغيرها من المحلات، كانت تمثل صفحة من الجمال العمراني المتمثل بالحوش البغدادي وواجهته المزينة بالشناشيل والأخشاب الملونة وحتى الإنارة كانت بلمسة فنية باهرة. هذه الحياة التي تتنفس رائحة الخشب زحف عليها الحديد والخرسان وحولها الى مدينة بأحياء وأزقة صامتة.
سيدة في الستين من عمرها تقف في الفرع الثاني من محلة البتاويين من جهة حديقة الأمة وهي ترمي بنظرها حتى آخره وتشير الى البيوتات :هذا بيت فلان وهذا بيت فلان وهذا بيت فلانة. كانت تتحدث بلوعة وشوق لتلك الأيام. وكيف كان فرعهم يتسابق مع بقية الفروع والأزقة بالنظافة والجمال والترتيب. لكنها عادت الى الواقع والحسرة على حال الفرع والبتاويين الآن وبيوتاتها التى تحولت للأسف الى بيوت لشتى الموبقات والمحرمات والممنوعات بعد ان كانت تضم صفوة العوائل البغدادية.
عاصمة الثقافة العربية
يشكل اختيار أية مدينة ،لاستضافة حدث سياسي او اقتصادي او فني او رياضي، طفرة نوعية في بناء وتقدم تلك المدينة وخاصة الجانب المعماري والخدمي. هذا ما ألفناه في الكثير من المدن التي وقع عليها الاختيار لاستضافة دورات وخاصة الرياضية منها مثل بطولة كأس العالم، او بطولة قارية او إقليمية مهمة. فتجد الحكومة المركزية والحكومة المحلية والجهات المعنية تعمل كخلية نحل من اجل إظهار المدينة بالشكل الملائم لقيمة وأهمية الحدث المنظم فيها وبعده التاريخي. الأمر الذي ينعكس بشكل او بآخر على وضع المدينة المستقبلي . وربما تكون هناك طفرة نوعية على الصعد والاتجاهات كافة. قبل عامين وقع الاختيار على بغداد عاصمة للثقافة العربية عام 2013، إثر مقترح تقدمت به المجموعة العربية في اليونسكو عام 1996 يهدف الى اختيار مدينة عربية لتكون عاصمة للثقافة، والغاية الكبرى من هذا المشروع إظهار الإمكانيات الحضارية والمعمارية والثقافية والأدبية والفنية للمدينة، وإرثها الحضاري والثقافي والفكري والتراثي والفلكلوري وحتى الشعبي. كذلك إبراز الدور التاريخي والمعاصر للمدينة في البناء الثقافي، لابل حتى الدور المستقبلي الذي يفترض انه معد وفق خطة ممنهجة ومدروسة تستند الى رؤى وأفكار مستمدة من التاريخ الثقافي لتلك المدينة وفق نظرة حداثوية، وتلازم الأمر مع انعقاد مؤتمر قمة بغداد. لكن شيئا من هذا لم يحدث وفشل المشروع مثلما فشلت الجهات المعنية في إعمار وتأهيل بغداد بذلك.
مدينة من دون دليل
الفنان التشكيلي والباحث سعد القصاب ذكر: "نحن الآن أمام صورة لمدينة قائمة على المفارقة، في ظل هذه الفوضى التي تشهدها بغداد، على مستوى العمارة والاجتماع وغياب تام لممكنات المدينة الحديثة، التي ينقصها التخطيط الحضري، وفقدان الوعي بخصوصية المكان وهويته، نجد ثمة تاريخ قريب آخر، هو الوجه المغاير لما باتت عليه بغداد الآن، تمثل بحضور حداثة مدينية تجلت عبر تجارب معماريين ، مثل محمد مكيّة ، قحطان المدفعي ، قحطان عوني ، رفعت الجادرجي.. وآخرون ، الذين افترضوا مشروعهم لرسم واقع مدينة انتظمت فيه رؤى جادة ، مع محاولات لابتكار مفاهيم معينة في العملية التصميمية والممارسة المعمارية ، هي بمثابة خبرات تماهت مع تراثها المعماري المحلي والوطني ، وتم تسجيل تلك المشاريع كمعالم خلاقة على الصعيدين العربي والإقليمي ."
وأضاف القصاب: "خاصة في عقدي الخمسينات والستينات من القرن المنصرم ، حينما كانت تجربة العمارة العراقية متميزة بطليعيتها وإيجادها لبدائل ناجعة، تجلت خاصة في احتوائها لمشكلة الإسكان التي كانت تعانيها كثير من دول العالم الثالث وقتئذ . ولكن ماذا أصاب هذا الجهد ، الذي غيّب حضوره عن قصد وقطع تواصله ؟ لقد تنكرنا لكل ذلك التاريخ والجهد المجيد. أجد أن المعماريين وحدهم من يستطيعون الإجابة على محنة كهذه ، بغداد الآن مدينة من دون دليل ، جراء واقع شديد القسوة تحياه منذ سنوات. حيث شهدت فداحة واضحة نتيجة التدمير والتخريب والإهمال ، وتاليا في غياب دولة ومؤسسة عارفة بما تعمل . إن المدن ، لا تكتفي كي تكوّن أسلوبا معينا لتنظيم السكن والعمل والإنتاج ، بل أيضا تظهر نبلها وروعتها لتكون شاعرية وكثيرة الأمل. ... وكم هي حاجتنا إلى أمل منيع كهذا."
التراث وهوية المدينة
وبالنّظر لأهمية التراث، فإنّ لكلّ ثقافةٍ قِيمَها المرتبطة بجذور الأسلاف والمتأصلة في المجتمع، ذلك لأنّ تراثَ كلِّ شعبٍ وأمة وقوم هو جزء من ثقافة المجتمع المتعاصرة والمتجددة طوال الزمن، بيد ان لكل جديد بصمة من التراث، كما انه (أي التّراثُ) يُساهمُ في تأكيدِ الذّاتِ والهُويّةِ، ففيهِ ثروةٌ يمكن ان تغني الجميع. ما نشاهده اليوم في شوارع ومناطق بغداد من اساءة وتخريب للتراث المعماري المتمثل ببنايات ودور يعود بناؤها لسنين وربما لعقود خوت في ظل سكوت غير مبرر من الجهات المعنية بهذا الأمر.
الشاعر والكاتب زهير بهنام بردى يقول : "تعتبر بغداد من أجمل المدن العربية فالعمارة البغدادية بطابعها المتفرد المميز الأقواس والشناشيل والترتيش التي تتدلى من نوافذها توحي لك بحكاياتها التاريخية وعمق حضارة أهلها"، مضيفا "كما ان بغداد تعتبر مركز إشعاع ثقافي وحضاري حيث تتصدر البلدان في ما تمتلكه من فكر إبداعي ثر وفنون جمالية وشموخ حضاري يتمثل بتنوع تلك الحضارات التي شعت على العالم ."
نعي بغداد
وبيّن بردى ان "لبغداد عمقا فولكلوريا وتراثيا منوعا كما انها مصدر دراسات كثيرة لاستكشاف والغور في أعماق المخطوطات العلمية والفكرية والثقافية والإرث الايماني الزاخر، مع تميزها بتنوع جمالي مستمد من الاهتمام العمراني بجوامعها ومساجدها وكنائسها ومعابدها التي بنيت في طراز جمال خلاق . فلا بد لنا ونحن نستذكر بغداد ان نمرعليها الآن ، لابد من وقفة جادة لنعمر بغدادنا التي ننعاها وننعى جمالها الذي شوهته الحروب." مستدركا: "لابد لنا ان نهتم بإعادة جمال بغداد في مشروع إعادة تأهليها مع الأخذ بنظر الاعتبار الجمال الثر والخزين الكبير في آثارها وشكلها العمراني وأزقتها ودروبها التي طبعها التاريخ بسواعد أبنائها ، لا بد ان نزيل الغبار عن وجه بغداد ، لا بد ان نعيدها كما كانت ، المدينة التي لا تضاهيها مدينة بالجمال والبهاء والتألق."
الماضي الجميل
الإنسان بطبعِيته توّاق الى الجذور والماضي والأيام الخوالي الى عهدِ الطفولةِ والصبا، وهذا ينعكس على الأمم والشعوب أيضا فيتحول الأمر من حالة حنين فردية الى حالة حنين جماعية عامة تحن الى الإرث الشعبي المشترك بأنواعه المختلفة المعماري والحكائي والاجتماعي والمهني. وما نلاحظه اليوم من تغيير في معالم مدننا عامة وبغداد خاصة يثير في نفوسنا ألماً وحسرة على تلك البنايات والبيوت الجميلة رغم بساطة التصميم والديكور الذي غالبا ما كان معماريا يدويا فنيا.
الأمر الذي يدفعنا هنا للتساؤل عن العقد الذي سبق وان أبرمته أمانة بغداد وأعلنت أنها تعاقدت مع شركة تركية لإعادة تأهيل وترميم بعض شوارع بغداد ومنها شارع السعدون، حيث اكتفوا بصبغ بعض البنايات وتغيير الأرصفة بمادة المقرنص لم تلق الاستحسان من قبل البغداديين او زائري المدينة نظرا لصعوبة السير عليها.
مدينة جديدة
من بين ميزات بغداد أنها مؤهلة ان تكون بمصاف المدن الكبيرة والحديثة لما تملكه من ميزات كثيرة، ففي جهاتها الأربع ثمة فضاءات واسعة ومفتوحة يمكن الاستفادة منها ببناء مدن وأحياء جديدة. او نقل المجمعات والأحياء الصناعية. ميزة النهر الذي يشطرها واستغلال ذلك في بناء المدن الترفيهية ومدن الألعاب والمسابقات. جسورها المتعددة التي يمكن ان تكون لوحات إضاءة بألوان مبهجة. تعدد الساحات في كل شوارعها ، فشارع السعدون ومع قصر مسافته يبدأ بساحة التحرير مرورا بالنصر والفردوس وكهرمانة نهاية بساحة الفتح التي أهلت بطريقة غير لائقة؟ وساحات اخرى كثيرة يمكن تأهيلها بشكل اكثر تحضرا وحداثة مع اضافة لمسة خاصة لكل ساحة مرتبطة بسمة من سمات تراث بغداد.
فارزة
ربما اكون من جيل لم تسنح له الفرصة بمشاهدة مدينة أوروبية ، لكني ،من خلال أحاديث الأصدقاء المغتربين عن المدن التي يقطنونها، كذلك ما نشاهده لمدن عالمية من خلال التقارير والتحقيقات الإخبارية او الأفلام السينمائية ، نجد ان هناك بنايات تعود الى قرن او قرنين او اكثر، واذا ما تفحصتها جيدا تجدها بحالة جيدة جدا، وغالبا ما تكون هذه البنايات في سنتر المدن الكبيرة مثل نيويورك، لندن، باريس، موسكو وغيرها من العواصم العالمية، التي تحولت الى رمز الحداثة المعمارية، لكنها احتفظت بتراثها المعماري والشعبي الخاص، كما انها ، أي البنايات التراثية اذا صح التعبير، تحولت بشكل او بآخر الى ارث سياحي يحكي عظمة الهندسة المعمارية في تلك الفترة لكل مدينة.
وللأسف الشديد فان هذا الأمر غائب في بغداد التي اخذ كل شيء يزحف عليها ويغيّر الكثير من معالمها المعمارية التراثية والشعبية، كما غير الكثير من إرثها المتنوع سواء على صعيد الأعمال المهنية الشعبية ام العادات والتقاليد الاجتماعية والكثير الكثيرمن الحالات والشواخص الشعبية التي أخذت تختفي من مدننا عامة.
مقالات اخرى للكاتب