محمد البساطي (1937-2012) روائي مصري له عدد من الروايات من بينها "غرف للإيجار" التي أقف هنا للنظر فيها.
وأول ما يخطر لي وأنا أقرأ الرواية، التي لا تتجاوز المائة والخمسين صفحة من القطع المتوسط إلا بقليل، قدرة الكاتب على نقل تفاصيل المكان وتجسيده في الرواية حتى ليشعر القارئ أنه يسير في الحواري الضيقة، ويشعر بأجساد الناس الفقراء فيها، ويشم روائحهم، مثلما يشعر بضيق الأماكن التي يضطرون إلى السكن فيها. فليست هي سوى غرفة واحدة في شقة، وحمام واحد لكل ثلاث غرف.
ثم تأتي بعد ذلك القدرة على تجسيد الشخصية ورسم ملامحها الخارجية وملامحها النفسية وتركها تتحرك من دون رقابة أو توجيه من الراوي. فهي شخصيات خارجة من جو القهر والضيق ومنسجمة مع منطقه، ولا يمكن أن تأتي بما يخالف ذلك الجو من كلام أو فعل. بل هي لا تفعل أو تتحرك إلا الحركة الاعتيادية الآلية. فهي تسير كأنها منومة مغناطيسيا.
فبائع الفول والفرّان والعامل في مصلحة السكك والعجوز المغني في الغُرز (الحانات الشعبية التي تبيع المشروب المسكر المحلي) ومثلهم نساؤهم، جميعهم، يتحركون مستسلمين للظروف راضين بواقعهم وقدرهم لا يثورون حتى في الأوضاع التي تستدعي الثورة.
فالعامل في مصلحة السكة الحديد، الذي يستأجر غرفة من الغرف الثلاث يسكن فيها مع زوجته وابنهما يوسف، لا يجد وقتا لجعل قفل الباب أقرب إلى يد الصبي فيضطر الأخير إلى تبليل ملابسه. وبانتظار أن يفرغ الأب لتغيير مكان القفل تترك الزوجة الباب مواربا لتسهيل ذهاب ابنها إلى الحمام.
ولكن الفرّان الذي يذهب إلى الغرزة ليليا يعود في إحدى الليالي لا يميّز من السكر بين غرفته وغرفة جاره فيدفع الباب الموارب ويستلقي إلى جوار المرأة، وهي بدورها لا تميّزه من الظلام فتظنه زوجها وتظل على رقدتها إلى أن يدخل الزوج فتنتبه إلى الغريب الذي بجوارها، وتأخذ بالصراخ!
يستيقظ ساكنو الغرف الأخرى وتأتي زوجة الفرّان فتسحبه من فراش جارهم وهي تعتذر بأنه لا يدري! وبعد أن يخرج الجميع يقوم الزوج بجلب عدته وفتح القفل وإنزاله إلى الأسفل، وقفل الباب، لينام بعد ذلك كأن شيئا لم يحدث.
ولكن وفي حالات أخرى أقل صعوبة من هذه الحالة نجد الشخصية تتصرف بطريقة غير مفهومة. فالرجل نفسه هرب من زوجته وابنه إلى حيث لا يعلم به أحد وبلا سبب أو لسبب تافه كما تروي الزوجة، ففي يوم استيقظ على وجع في بطنه، وكان يريد الحمام الذي شغلته إحدى الساكنات وأطالت. فاضطرت الزوجة إلى إخبارها أن الرجل مستعجل يريد أن يذهب إلى عمله حتى تخلي الحمام له. وما بدا طبيعيا كان سببا في هرب الرجل الذي عاد إلى الغرفة بينما كانت الزوجة توصل ولدهما يوسف إلى المدرسة ليأخذ ملابسه ويترك مبلغا لعائلته يكفيهما لشهر ويغيب.
في الحالتين يبدو موقف الرجل مخالفا للمألوف فهو لم يظن بزوجته الظنون أو يثور لوجود غريب في فراشه ولم يفعل أكثر من القيام بعمل بسيط أجّله طويلا وهو تغيير مكان القفل ليكون في متناول الولد، وينام. وهو في الحالة الثانية يترك أسرته لمبرر بسيط.
ولكن هذه الغرابة لا مكان لها في عالم الرواية التي تُظهر كل شيء محكوما بمنطق أقوى من منطق الشخصية أو قدرتها على التحكم في الفعل أو في ردّ الفعل. وهي ترينا في النهاية مدى ضعف الإنسان وضآلته وعجزه أمام قوى لا قدرة له على مواجهتها، وليس له أمامها إلا الاستسلام الكامل. وهي أي الرواية، تقول لنا: إن ذلك الضعف والعجز سيجعل من الثورة فعلا لا يقل عجزا عن الخضوع. فكلاهما فعل غير واعٍ وبلا أثر يُذكر.
أليس هذا هو ما نعيشه في عصر الثورات؟! ضعف الإنسان واستسلامه أمام قوى مختلفة يواجهها يوميا في حياته بين أنظمة الحكم الشمولية القاسية والإسلام السياسي ومشكلات المجتمع المتراكمة من فقر وجوع ومرض وأمية تجعله في النهاية بين استسلام غريب يقترب من البلادة أمام ما يواجهه من ظلم تتعدد صوره، وبين ثورته لأسباب غير مفهومة ومن غير أية رؤية محددة وتصوّر لما بعد الثورة، ما يجعلها أقرب إلى فرار إلى المجهول وضياع فيه.
مقالات اخرى للكاتب